المواطنة و الدولة الديمقراطية

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

المواطنة  و الدولة  الديمقراطية

نضال درويش

تتأسس  هذه المقاربة لمفهوم المواطنة ،من ناحية المبدأ، على فرضية التعارض والتضاد بين المجتمع المدني وتعبيره السياسي، الدولة الديمقراطية من جهة، والمجتمع الجماهيري القطيعي وتعبيره السياسي، الدولة التسلطية ذات الطابع الشمولي من جهة أخرى. وذلك لاعتقادي بأن هذا التعارض يشكل التعارض الرئيس الذي يحكم سائر التعارضات الاجتماعية والسياسية الأخرى، في المجتمعات التي تعيش في كنف هذه الدولة، فالدولة التسلطية في سياق تأمين كافة روافدها من أجل إعادة إنتاجها ، تحول المجتمع إلى سديم بشري غير منسوج ، أو إلى "جماهير" أو كتل من أفراد سلبيين ومنعزلين وخائفين، وينتج ما يسمى بمجتمع الرعية وتقوم العلاقة بينه وبين السلطة علاقة الراعي بالرعية.فتختزل الدولة/ الوطن بالسلطة ، ويختزل المجتمع المدني ( مملكة الحرية ) إلى كتلة سلبية من الأفراد الذين يعيشون حالة من القطيعية ، وتنتفي صفة المواطنة عن المواطن الذي هو عماد الدولة ( القانون ) و عنصر الديمقراطية . من هنا فإن العلاقة النوعية التي تميز الدولة الديمقراطية من الدولة التسلطية ، قائمة على حد المواطنة، التي هي صفة ينالها الفرد من الناس ليتمتع بـ" المشاركة الكاملة في دولة state لها حدود إقليمية" (موسوعة العلوم الاجتماعية).  و  "التزامات متبادلة بين الأشخاص والدولة فالشخص يحصل على حقوقه السياسية والمدنية نتيجة انتمائه إلى مجتمع معين ولكن عليه في الوقت نفسه واجبات يتحتم عليه أن يؤديها" ، مما يعني إنها تشكل التعبير القانوني عن الوجود السياسي للوطن( الدولة) والمواطن معاً ، فهي بالتالي حجر الزاوية لتطوير الدولة والوطن ابتداءً من نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وامتداداً إلى النهوض الثقافي والارتقاء الحضاري، مما يعني بالمستوى الآخر إن افتقاد المواطن للمواطنة بمدلولاتها المدنية والسياسية والقانونية هي الوجه الآخر لافتقاد الدولة بمدلولاتها المعنوية والرمزية وليس فقط المادية، فالمواطنة صفة موضوعية لا تقبل التفاوت والتفاضل، كالإنسانية سواء بسواء، فليس بين أبناء الوطن الواحد وأعضاء المجتمع المدني الواحد والدولة الديمقراطية الواحدة من هو مواطن أكثر من الآخر، أو إنسان أكثر من الآخر؛ ومن ثم فلا سبيل إلى أي نوع من أنواع الامتيازات المعروفة في الدولة التسلطية. فالدولة الديمقراطية دولة حق وقانون لجميع مواطنيها على السواء أولا وأساسا. وعدم التفاوت والتفاضل في المواطنة وفي الإنسانية هو الأساس الواقعي لمساواة المواطنين أمام القانون.

وبذلك يمكننا القول أن المواطنة لا تبنى إلا في بيئة سياسية ديمقراطية – قانونية تستند إلى جملة من الحقوق والواجبات ، مما يعني الاعتراف المبدأي والأساسي بالتناقضات والتعارضات و الحق بالاختلاف والتعدد والمغايرة بكل المعاني ، مما يشكل ضربا من تجاوز كل أشكال الاستفراد بالسلطة والقرار أو الاستهتار بقدرات المواطنين وإمكانياتهم العقلية والعملية وتنوعهم. والقاعدة العريضة التي تحتضن مفهوم المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي، هي قاعدة العدالة والمساواة. فكلما التزم المجتمع بهذه القيم ومتطلباتها، أدى ذلك إلى الاعتراف بحق ومشروعية الاختلاف والتنوع والتعارض التي تربط بين مكونات الوطن الواحد وتعبيراته ، التي تجد السبل الديمقراطية والمشروعة القانونية في التعبير عن نفسها بالمعنى الثقافي والسياسي . فمقتضى العدالة الاعتراف بوجود التعددية في الفضاء الاجتماعي والسياسي وتنظيم العلاقة بين هذه التعدديات على أسس المواطنة المتساوية.

أي أن قوام المواطنة منظومة من الحقوق الطبيعية الثابتة والحقوق المدنية المكتسبة والالتزامات المتبادلة، والحريات الأساسية، وتتحدد في ضوئه وعلى أساسه الهوية الوطنية ، فماهية مجتمع ما هي ما ينتجه هذا المجتمع بالفعل على الصعيدين المادي والروحي. ومن ثم فإن مفهوم المواطنة مرادف لمفهوم المشاركة في الإنتاج الاجتماعي وفي الشأن العام والمساهمة في صياغة مستقبل الوطن؛ وهو، على صعيد الفرد نزوع أصيل إلى الكلية التي تتعين في المجتمع المدني والدولة الديمقراطية، وفي الجماعة الإنسانية التي هي مستقبل الجميع.

فالمواطنة الحقيقية لا تتعالى على/ ولا تشكل نفيا لحقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولا تمارس تزييفاً للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق الاعتراف بحقائقه الثابتة، وتعمل على فتح المجال للحرية والانفتاح والتعددية في الفضاء الوطني. فالأمن والاستقرار والتحديث والإصلاح ، كل ذلك مرهون إلى حد بعيد بوجود مواطنة متساوية مصانة بنظام وقانون يحول دون التعدي على مقتضيات المواطنة الواحدة المتساوية ومتطلباتها.

وعلى ضوء ذلك تتشكل الثقافة الوطنية في خطوطها الرئيسية وآفاقها وأولوياتها من الثوابت وطبيعة التفاعل والمثاقفة التي تكون بين مجموع التعدديات المتوافرة فى الفضاء الوطني. وعلى هذا فإن الثقافة الوطنية هي التي تكون تعبيراً عن حالة التنوع والتعدد الموجودة في الوطن، فليست ثقافة فئة أو مجموعة، وإنما هي ثقافة الوطن بكل تنوعاته وأطيافه وتعبيراته. ويكون دور الدولة ومؤسساتها في هذا الإطار هو توفير المناخ القانوني والسياسي والاجتماعي وبناء الأطر والمؤسسات القادرة على احتضان جميع التعبيرات لكي تشارك في صياغة مفهوم الثقافة الوطنية وإثراء مضامينها بقيم المجتمع والعصر. وبهذا المعنى تشكل الثقافة الوطنية التعبير الموضوعي عن مكونات المجتمع المتنوعة والمتعددة القائمة والمعبرة عن حقيقة اجتماعية تاريخية .

في هذا السياق يمكن الحديث عن "ثقافة المواطنة"، وهى تلك الثقافة التي ترتكز على "مبدأ المواطنة" كمحور أساسي حاكم لمجمل تفاعلاتها فالمواطنة إذن هي جملة من الحقوق والواجبات تتحقق من خلال قدر من الوعي والمعرفة يلزم منها سعي الفرد لتحصيل حقوق المواطنة وسعيه للوفاء بالتزاماتها. وهذا المسعى لابد أن يتم من خلال وسائل مشروعة يحددها النظام ويتعلمها ويعيها الفرد. في ضوء هذا التحديد تتحدد لنا علاقة المواطنة بالوطنية  التي هي علاقة حكم الواقع بحكم القيمة ، حيث تبدو لنا المواطنة حكم واقع، لأنها انتماء موضوعي إلى وطن، إلى مجتمع ودولة؛ والوطنية حكم قيمة وتحديداً ذاتياً للفرد والمجتمع والدولة؛ وبالتالي  فلا وطنية بلا مواطنة، ولا مواطنة بلا حقوق مدنية وحريات أساسية؛ فنفي المواطن هو نفي للديمقراطية والدولة ومن ثم فإن نفي حكم الواقع هو نفي حكم القيمة المرتبط به أوثق ارتباط، .

فالدراسات التي تناولت المواطنة ركزت على ثلاثة جوانب أساسية هي : الحقوق والواجبات والوسائل) وأبرزت ذلك من خلال

1. المسؤولية الاجتماعية

2. المشاركة الاجتماعية

3. الوعي السياسي.

"والمواطنة كأي اتجاه تتكون من ثلاثة عناصر وهي المعلومات والمشاعر والسلوك. وهذه العناصر  يمكن النظر منهجيا لهذه العناصر على مستويين: المستوى الأول المفهوم الذهني والشعور النفسي ويتمثل في المعلومات عن الوطن والوعي بالحقوق والواجبات ومحبة الوطن والرضا عن تحصيل الحقوق وأداء الواجبات، والمستوى الثاني ممارسة المواطنة وهي في الغالب ذات شقين: الشق الأول الالتزام العام بالأنظمة والقوانين واحترامها والشق الثاني ممارسة العمل السياسي والعمل المدني الطوعي. وإذا كان المستوى الأول يعتمد في معظمه على التربية والتعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمسجد فإن المستوى الثاني يعتمد غالبا على النظم والتشريعات التي تنظم عمل المواطنين من ناحية وعلى مستوى الدافعية عند الأفراد من ناحية أخرى. ولربما كان مستوى الوعي بالمواطنة عاليا عند المواطن ولأن النظم تقيد عمل المواطن ومشاركته في مجالات العمل السياسي والعمل المدني فلا يشارك المواطن ليس كم  ضعف الدافعية ولكن النظم والتشريعات تقيد حريته في ذلك". ويعتبر الوعى بالمواطنة نقطة البدء الأساسية فى تشكيل نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى بلاده وإلى شركائه فى صفة المواطنة، لأنه على أساس هذه المشاركة يكون الانتماء وتكون الوطنية. فغياب حقوق المواطنة يؤدى إلى تداعى الشعور بالانتماء للوطن، وتباين امتلاك الأفراد لهذه الحقوق يؤدى إلى تفجر قضايا التمييز التعسفى وتفكك روابط التكامل الوطنى.

وبذلك يمكن القول أن  مبدأ المواطنة يترسخ بالتمييز بين نوعين من الحقوق هما: الحقوق المدنية والحقوق السياسية. الأولى، تهدف إلى تمكين الإنسان من العيش والحياة كمواطن داخل بلده بحكم عضويته في الجماعة السياسية، أي عضويته في المكون البشرى للدولة، وهى حقوق يجب أن يكون في مقدور كل إنسان أن يمارسها بحرية دون تدخل من الغير أو من الدولة طالما أنه لم يرتكب ما يخالف القانون مثل حرية الرأي والتعبير وحق الملكية. أما الثانية، فهي أكثر فاعلية، فهذه الحقوق تضمن لصاحبها المساهمة الإيجابية في ممارسة السلطات العامة في بلاده وذلك من خلال المشاركة في مؤسسات الحكم السياسية والقانونية والدستورية، ولا تكون المواطنة إلا لمن يكون له، طبقاً للدستور والقانون، هذا النوع الثاني من الحقوق.هنا يتأكد لنا أن المواطنة مقترنة بحق المشاركة، بمفهومه العام في كل ما يتعلق بالوطن، وبمفهومه الخاص أي المشاركة في الحكم، أي أن يكون الإنسان طرفاً معترفاً به في حكم بلاده وفى إدارة شئونها، وألا يكون محروماً أو معزولاً عن ممارسة هذا الدور. فالأفراد المقيمون على أرض الدولة والذين يجبرون على الانصياع للأوامر الصادرة دون أن يسهموا بشكل ما فى إعدادها وإصدارها هم من الأجانب، فهؤلاء السكان مع إمكانية تمتعهم بالحقوق المدنية لا يمكن اعتبارهم مواطنين، أى أعضاء أصلاء فى الجماعة السياسية ممن يساهمون فى توجيه وإدارة حياتها السياسية.

فثمة علاقة لا انفكاك فيها بين مسار نضج ورقي المواطنة واكتمال مكوناتها ومسار استقلال الدولة وثبات العزة والكرامة الوطنية من ناحية، ومسار تثبيت الحقوق السياسية والمدنية للمواطن، ناهيك عن حقوقه الإنسانية، وتمتعه بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات دون تمييز في مناخ من الحريات الديمقراطية،  وبذلك تتوافق حرية الوطن مع حرية المواطن ، وتتكرس ماهية الدولة ( مملكة القانون ) مع تكريس ماهية المواطنة والديمقراطية. لذلك قلنا أن المواطنة تشكل الحد الفاصل بين ترسيخ مكونات المجتمع المدني وتعبيره السياسي أي الدولة الديمقراطية ، والمجتمع الجماهيري الممتص فيه وفي السلطة مؤسسات المجتمع المدني وتعبيره السياسي أي الدولة التسلطية ، مما يضعها مفهوميا وواقعيا في خانة المكون الأساسي لبناء الدولة ذات النزوع الديمقراطي.