التدريب الدولي على حقوق الإنسان
التدريب الدولي على حقوق الإنسان
بقلم مايكل إي. هارتمان
هناك أهداف عديدة ومختلفة للتدريب على حقوق الإنسان. يُركّز هذا المقال على تدريب القضاة، والمدّعين العامّين، والمحامين، وضباط الشرطة. كما يُركّز على التدريب على حقوق الإنسان في حالات التوقيف، وإلقاء القبض، والتحقيق القضائي، والمُحاكمة، وفي نظام القضاء الجنائي، بدءا من إلقاء القبض من قِبَل رجال الشرطة حتى صدور الحكم القضائي. وبما أن العديد من حقوق الإنسان أصبحت مُصانة نتيجة إصلاحات في قوانين الإجراءات الجنائية، فقد تمّت إضافة التدريب على جهود تطبيق حكم القوانين.
على المُدرّب على حقوق الإنسان أن يُظهر الاحترام للثقافة القانونية ولقانون البلد المَعني من خلال بذل الجهد والوقت لإعداد خطة وأسلوب كل برنامج تدريب حول حقوق الإنسان. يتطلّب ذلك امتلاك معرفة مُحددة مُسبقة للبلد، إمّا من الذين يعيشون في داخلها، أو من القادمين من خارجها، ومن ثم مهايأة المواد والأساليب على أساسها.
من يقوم بالتدريب على حقوق الإنسان؟
إن المُدرّبين على حقوق الإنسان يشملون الذين تُمولهم دول متطورة عديدة، أو من هم مِن مواطنيها، بما في ذلك الولايات المتحدة، من خلال وزارة الخارجية، ووزارة العدل، وكذلك من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي منظمات إقليمية مثل المجلس الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. تُدير منظمات دولية مثل الأمم المتحدة برامج التدريب على حقوق الإنسان من خلال عدد من وكالاتها، بضمنها مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، وبرامج مُمولة من قِبَل صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة، ومن خلال ضباط حماية حقوق الإنسان في بعثات حفظ السلام.
يجب ان تشمل هذه القائمة أيضاً المنظمات غير الحكومية العديدة التي تقوم بالتدريب على حقوق الإنسان، بضمنها المجموعة القانونية الدولية لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، وجمعية المحامين الأميركيين ومنظمات أخرى.
أين تُقام دورات التدريب على حقوق الإنسان ومن يستفيد منها؟
تُقام دورات التدريب على حقوق الإنسان مبدئياً في تلك الدول التي تمر في طور التحوّل من أنظمة ديكتاتورية، بما في ذلك دول تمر في مرحلة ما بعد انتهاء النزاعات فيها، ودول مستقلة حديثاً من يوغوسلافيا السابقة، ودول مستقلة حديثاً عن الاتحاد السوفياتي السابق، وغيرها.
يتلقّى في هذه الدول النظام القضائي - القضاة والمدّعون العامّون والمحامون ورجال الشرطة - التدريب على حقوق الإنسان. لكن هذا التدريب يشمل أيضاً مهنيين آخرين مثل أمناء السجل العدلي، وقضاة المخالفات الثانوية (الذين لا يُعتبرون تقنياً قضاة في المقاييس الدولية للاستقلالية ولا يتناولون مخالفات القانون الجنائي)، إضافةً إلى موظفين في منظمات غير حكومية.
يجب أن يتلقّى أيضاً مشاركون دوليون آخرون يقومون بمهمات المراقبة أو يشغلون وظائف قضائية تدريباً على حقوق الإنسان. في كوسوفو، مثلاً، تُعيّن بعثة الأمم المتحدة المشاركين الدوليين كقضاة ومدّعين عامين للقيام بهذه المهمات في النظام المحلي للمحاكم. في دولتي تيمور الشرقية وسيراليون يؤدي هؤلاء هذه المهمات في المحاكم الخاصة الموجودة في هاتين الدولتين والمختصة بالنظر في جرائم الحرب وجرائم مُعينة. على هؤلاء المشاركين إدراك كيفية تدريب الموظفين المحليين، وهؤلاء، من جهتهم، يمكنهم أيضاً إعادة تغذية معلوماتهم إلى المُدرّبين على قضايا حقوق الإنسان التي تنطبق على القانون المحلي والثقافة القانونية المحلية.
ما هو جوهر وطبيعة التدريب؟
في أحيان كثيرة، يُصمّم المُدرّبون على حقوق الإنسان برنامجاً للتدريب في بلادهم دون مهايأته بصورة صحيحة، لا مع واقع الدولة التي سيتوجهون إليها، ولا مع الذين سوف يقدمون إليهم ذلك البرنامج. أتذكّر، أني في عام 1997 كنت في سيارة باص سوية مع مدّعين عامّين من البوسنة عائدين من حضور أول مؤتمر لهم منذ الحرب، وكان عدد من المدّعين العامّين يتذمّرون من محاضرين أُرسلوا بالطائرة من قبل منظمة إقليمية حكومية أوروبية، لا صلة لهم بالممارسات التي يتبعها الادعاء العام في البوسنة. قال أحد المدّعين العامّين "هل لاحظت أن فلانا لم يذكر كلمة البوسنة مرة واحدة خلال 30 دقيقة؟ كما لم يُزعج أي منهم نفسه ليطرح سؤالاً واحداً حول نظامنا القانوني أو مشاكلنا."
قبل شروع مُدرّب حقوق الإنسان بتنفيذ أي برنامج عليه أن يَصرِف الوقت الكافي لمعرفة كيفية عمل الدولة الموجود فيها. وعليه، بعد ذلك، تصميم برنامج تدريب يُلائم احتياجات تلك الدولة. مُدرجة أدناه بعض التوجيهات التي يتوجّب على مُدربي حقوق الإنسان درسها قبل تصميم برنامج كهذا.
السلوك. قبل بدء برنامج التدريب، يجب التفكير بأسباب حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان. في بعض الأحيان يتم التغاضي عن هذه المرحلة الإعدادية المهمة، بحيث يَفترض المُدرّب، على سبيل المثال، وحشية رجال الشرطة، أو فساد المدّعين العامّين والقضاة في البلد المعني. ففي حين قد يكون هناك، في بعض المجتمعات، مستوى مُعيّن من الوحشية لدى رجال الشرطة والفساد لدى القضاة، يجب أولاً درس أسباب هذا السلوك.
وكما قال لي أحد ضباط الشرطة، "طبعاً إننا نقوم بضربهم. إذ كيف يمكننا، يا بروفيسور مايكل، إجبارهم على الاعتراف؟ وبدون الحصول منهم على اعتراف كيف تستطيع إدانتهم؟ ونحن لسنا كالغرب، ففي الولايات المتحدة تلجأون إلى أساليب التحقيقات القضائية القانونية العجيبة وإلى اختبارات الحمض النووي (دي أن أي) بينما نحن هنا لا نستطيع أكثر من إرسال فريق من خبراء جنائيين لمحاولة العثور على بصمات أصابع في أقل من 5 بالمئة من حالات القتل والاغتصاب." وينطبق هذا على الممارسة غير القانونية لتوقيف أفراد عائلة المتهم، غالباً النساء، وسجنهم لدفع المتهم الذكر من أفراد العائلة إلى تسليم نفسه إلى الشرطة، إذ ليس هناك نظام لمذكرات التوقيف يعمل تلقائياً.
إن ظروف العمل في دول نامية عديدة، والرواتب التي تُدفع لأفراد الشرطة وحتى للقضاة والمدّعين العامّين، تجعل من إغراءات الرشاوي أو "الهدايا" أمراً مفهوماً نوعاً ما. فمثلاً، ان دوام عمل رجل شرطة أو ضابط دورية أمن في باكستان هو رسمياً 24 ساعة في اليوم. في لاهور، باكستان، على تسعة مساعدين للمدّعين العامّين يُعهد إليهم التحقيق في جرائم خطيرة العمل سوية في غرفة صغيرة واحدة وعلى طاولة مكتب واحدة ويطالعون ملفاتهم في العَراء وهم جالسون في مقاعد قابلة للطي. ان الرواتب التي تُدفع لرجال الشرطة في اليمن وباكستان وتنزانيا والهند متدنية بدرجة تُغري حتى الرجال المستقيمين على طلب رشاوى أو قبولها. في كوسوفو تَرَك مدّع عام إحدى المناطق عمله لأنه لا يستطيع تأمين معيشة عائلته من راتبه الذي كان يقل عما تدفعه الأمم المتحدة إلى المترجمين المحليين.
الدافع. بالإضافة إلى معالجة المسائل القانونية والأخلاقية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان على المُدرّبين أيضاً الاهتمام بضرورة إيجاد بدائل للحصول على اعترافات لحل الجرائم. يجب ان يشمل ذلك، تحديداً، التدريب على الأساليب القضائية والطرق النفسية الإنسانية في عملية الاستجواب، وتأمين دعم أكبر لتدريب رجال الشرطة، وتقاسم المعلومات. كما يشمل أيضاً تأمين المعدات الضرورية للتحقيقات القضائية والشرعية، وإنشاء قاعدة مركزية لبيانات مذكرات التوقيف ولسجل وبصمات الأصابع لكي يتم الكشف عنها تلقائياً عند أي عملية توقيف أو إلقاء القبض تتم عبر البلاد.
إن الكثير من أنظمة العدل في القوانين المدنية (للدول النامية) المبنية على قواعد أوروبية لا تعتمد "قاعدة الاستبعاد" (استبعاد شهادة يتم الحصول عليها بصورة غير قانونية) إلاّ في الحالات التي يتبيّن فيها ان الشهادة التي تمّ الحصول عليها بهذه الطريقة غير موثوقة، أو أنه تمّ الحصول عليها من خلال اعترافات إكراهية. بعد تطبيق قاعدة الاستبعاد في الولايات المتحدة أظهرت الإحصائيات ان نسبة مئوية صغيرة فقط من القضايا تأثرت بها فعلياً، وأدت إلى خسارة قضايا بسببها. منذ تبنّي قاعدة ميراندا (إعلام المتهم بحقه في الصمت وطلب حضور محام) في الولايات المتحدة انخفض عدد الاعترافات نوعاً ما، ولكن بعد تدريب رجال الشرطة على أساليب استجواب نفسية مقبولة بقيت النسبة المئوية للقضايا التي تمّ الحصول فيها على اعترافات دون تغيير، بل، وفي بعض الحالات، زادت بالفعل.
يجب أيضاً تشجيع استعمال أساليب الاستجواب المسجلة بالفيديو أو صوتياً لمنع الاتهامات الكاذبة حول وحشية رجال الشرطة. استُعملت هذه الطريقة بنجاح في الولايات المتحدة وفي دول أخرى. ان زيادة التصريحات المسجلة لها تأثير ذاتي التعزيز إذ أن القضاة والمدّعين العامّين يتعودّون أكثر على فوائد الاعترافات المسجلة.
إن استخدام العقوبات ضد انتهاكات حقوق الإنسان من قبل رجال الشرطة أو المدّعين العامّين أو القضاة يجب معالجته من خلال التفهم لدوافع مثل هذا العمل. يتم ذلك في أحيان كثيرة من خلال دعم جمعيات مهنية لخلق أو لاستعادة الاعتزاز المهني، إضافةً إلى التدريب الذاتي، والتطبيق التلقائي لقوانين الانضباط والأخلاق. على ذلك أن يتم بالمشاركة مع هيئة مستقلة تقوم بالتحقيق في حالات إطلاق النار والوفيات التي يتورط بها رجال الشرطة وأي حالات وفيات خلال فترة التوقيف، وهذا دور يؤديه المدّعون العامّون ولجان مستقلة في الولايات المتحدة.
يمكن أحياناً استخدام القيم السائدة لتعزيز الالتزام بمعايير حقوق الإنسان وبالحاجة لمثل هذه العقوبات التأديبية. في اليمن، مثلاً، أظهر طلاّب كلية الشرطة نوعا من اللغة الجسدية التي تنم عن عدم القبول خلال محاضرة حول أدوات وأساليب حقوق الإنسان. بينما ظهر تغيير ملحوظ في درجة اهتمامهم عندما اتجه موضوع المحاضرة نحو قيمة الشرف، وكيف ينقص شرف ضابط شرطة عندما يقوم الأقوياء وكثيرو العدد بضرب الضعفاء بدلاً من حمايتهم، وكيف أن التستّر على زميل في الشرطة من نتائج ممارسته غير المشرّفة ينتقص من شرف الشرطة ككل. أثبتت هذه الطريقة في التدريس بأنها أكثر فعالية في تحفيز دوافع لطلاب كلية الشرطة، إذ اهتموا أكثر بأن يكونوا محاربين شرفاء ضد الجريمة عوضاً عن التمجيد البسيط لفضائل معايير حقوق الإنسان.
الثقة. ان تضخيم أي قضية معيّنة هو عمل خطير قد يؤدي إلى تدمير الثقة وتوازن القيم المشتركة. يحدث ذلك عند التوسيع الكبير لنطاق الحقوق عموماً بدلاً من تركيز الاهتمام على حقوق المجتمع الأكثر أهمية. يمكن تقسيم هذه الأخطاء إلى أخطاء ناتجة عن سوء فهم للظروف الواقعية وتلك الناتجة عن معلومات وخبرة غير كافية في الممارسات الاعتيادية للشرطة والمحاكم من جهة، وتلك الأخطاء الناجمة عن سوء فهم لمعايير حقوق الإنسان القابلة للتطبيق حسب تطبيقها على ظروف غير مألوفة من جهة أخرى.
في البوسنة، ومصر، والهند، واليمن، وإضافةً إلى دول أخرى، سمعت محامين عن حقوق الإنسان يؤكدون على ان التأخير في النظر في القضايا الجنائية يشكل انتهاكاً لحق "المحاكمة السريعة "أو "المحاكمة خلال وقت معقول". لكن لم يناقش هؤلاء المحامون مع المدّعين العامّين والقضاة المختصين أسباب التأخير واعتبروا ببساطة التفسيرات المعطاة لهم على أنها "أعذار". وفي حين انه بالإمكان القول أن عدم توفّر الموارد، والتمهّل التقليدي، والإجراءات القانونية المعقدة، هي التي أدت إلى الانتهاك الواقعي لحقوق الإنسان، فلم يكن ذلك مقنعاً، وفي الواقع، لم يكن هذا القول مفيداً بسبب وجود أمور عديدة أخرى تعتبر انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان.
الاحترام. يجب أن يعرف المُدرّبون على حقوق الإنسان مدى الاختلافات والتشابهات بين وطنهم والدولة المضيفة. بخلاف ذلك، يمكن ان يَنتج عن الاختلافات المنهجية الإجمالية افتراضات حول الدولة المعنية تؤدي إلى الإرباك والأخطاء التي تنفّر المستمعين من كلام المُحاضر. ان الحاجة للتعرف على تفاصيل الأمور وإظهار الرغبة لتعلُّم الإجراءات المُطبقة في الدولة المضيفة مهمان أيضاً. يجب ان لا يفترض المُدرّب بان القانون المدني في الدولة المضيفة هو نفس القانون الساري في وطنه أو قريباً جداً منه. في هذا الخصوص، يحتاج المُدرّب إلى تحديد درجة نضج الثقافة القانونية في الدولة المضيفة. ويكمن الحل بالإعداد المسبق عبر البحث وطرح أسئلة، والاستماع إلى الذين يقيمون في الدولة نفسها ويستطيعون الإجابة على الأسئلة.
مثلاً، في بعض أنظمة القانون المدني، يتوجب على المدعي العام وعلى وكيل الدفاع أخذ موافقة المحكمة قبل طرح أسئلة مباشرة على الشهود، ويحق لهما فقط توجيه الأسئلة إلى القاضي الذي يحق له إعادة صياغة هذه الأسئلة بحرية قبل توجيهها إلى الشهود. بإمكان الطرف المتضرر أو عائلة المغدور ان تشارك في استجواب الشهود، أو أن تطلب من محاميها ان يفعل ذلك خلال الإجراءات الجنائية. إذا أسقط المدعي العام القضية يمكن ان يقوموا هم بالمقاضاة. قد تسمح المحكمة للمتهم باستجواب الشهود مباشرة. ولا يوضع المتهم تحت القسم في معظم أنظمة القانون المدني. حتى ان الكلمة القانونية الشائعة "المُدّعى عليه" تترجم عادةً بكلمة "المتهم"، وفي بعض الدول لا تُشكّل كلمة "مشتبه به" كلمة منفصلة عن "المُدّعى عليه" أمام المحكمة.
يخطئ المُدرّبون على حقوق الإنسان أحياناً عند اعتمادهم لمبادئ النظام القضائي في وطنهم كمعايير لحقوق الإنسان، ثم الإصرار على تطبيقها في الدولة المضيفة. هذا خطأ مزدوج: ان المبادئ المعتمدة في وطن المُدرّب ليست جميعها مطلوبة في مبادئ حقوق الإنسان (رغم كون هدف هذه الحقوق هو حماية حقوق المتهم)، ويجب فحص النظام القضائي في الدولة المضيفة بطريقة شمولية إذ بغياب ذلك قد يرى المُدرّب انتهاكا للحقوق حيث لا يوجد أي انتهاك.
في يوغوسلافيا السابقة، مثلاً، صُدم المُدرّبون على حقوق الإنسان عندما لاحظوا عدم وجود أي تقييد أو رقابة على أسلوب وطريقة استجواب الشرطة للمشتبه بهم، مثل حق التحذير وطلب محام. لكن لم يعرف المُدرّبون على حقوق الإنسان بأن ذلك يعود إلى ان القانون لا يسمح باستعمال أي إفادات تُعطى للشرطة كإثباتات للإدانة في المحاكمة، وهذا ما أظهر لهم أن النظام بمجمله مقبول عند الافتراض الواضح بأن كافة الإفادات المعطاة لرجال الشرطة غير جديرة بالثقة ولا تستعمل كإثبات للإدانة. ان المتطلبات القانونية الوحيدة في قانون الإجراءات الجنائية هناك هي وضع حدود زمنية لتقديم شخص محتجز أمام قاضي تحقيق، ومنع "انتزاع الاعترافات من المتهم". منع القانون الجنائي أيضاً انتزاع الإفادات بالقوة، أو بالتهديد أو طرق أخرى غير مسموح بها.
التوجيهات. يكون المُدرّبون على حقوق الإنسان عادةً على اطلاع جيد على الاتفاقات والمعايير والتوجيهات المتعلقة بحقوق الإنسان، كما يطلعون، في سياق النظام القضائي، على ما يتعلّق بحقوق المتهم. لكن من المهم بنفس الدرجة ان يكون المُدرّب حسن الإطلاع على الأدوات الدولية الأخرى التي تتعلق بحقوق ضحايا الإجرام، وبمبادئها الأساسية، وبأدوار الأطراف المعنيين - القضاة والشرطة، والمدّعين العامّين ووكلاء الدفاع.
ان مصداقية المُدرّب وفهمه لمبادئ ومهنيتهم يكسبانه احتراماً كبيراً. ان أحد الانتقادات التي توجّه إلى المُدرّبين - وهي مُنصفة أحياناً - تتعلق بتركيزهم الضيق على حقوق المتهم وليس على ضرورة تأمين العدالة للضحية أو على التطبيق الكفؤ والفعّال للقانون.
المتطلبات. هناك في معظم الدول التي تستضيف ورشا للتدريب على حقوق الإنسان نفس المشاكل القائمة في دول أكثر تطوراً - ولكن بمقدار أكبر وخطورة أكثر. فمثلاً، لا يتوفر للشرطة ونظام القضاء عادةً الحيّز الكافي، أو التجهيزات، أو الموظفين، أو التعليم، أو التدريب أثناء العمل. كما أن ما يتوفر للشرطة يكون عادةً بحاجة إلى تحديث أو استبدال. في أحيان كثيرة، يأتي المُدرّبون من دول تملك ميزانيات وموارد بشرية ضخمة. وعند وصولهم إلى الدولة المضيفة يحاولون فرض أعلى معايير حقوق الإنسان. لكن لسوء الحظ قد لا تكون الدولة المضيفة قادرة على تأمين متطلبات مالية وموارد بشرية أكبر.
لذلك يجب أن يكون واضحاً في ذهن المُدرّب على حقوق الإنسان وكذلك أثناء محاضراته لأقصى ما يمكن الاستفادة منه بتطبيق الحد الأدنى من معايير حقوق الإنسان. ان الحاجة للتدريب على الحد الأدنى لمعايير حقوق الإنسان ليست مطلوبة فقط لتأمين التوازن، بل وأيضاً لان من المحتمل أن تبدو المعايير العالية المرجوة غير عملية في هذا الوقت من قبل الحكومة المضيفة، ولذلك ترفضها. بطريقة مماثلة، يجب على المُدرّبون أن يختاروا هم معاركهم وأولوياتهم، وأن يقرروا ما هي المسائل الثلاث الأكثر أهمية التي يمكن ان تقبلها الثقافة القانونية القائمة والتي يمكن أن تؤدي إلى إحداث بعض التغييرات. يجب التشديد على هذه المسائل، ربما سوية مع مسائل ثلاث إضافية تبدو طويلة الأمد اكثر. ان هذه الطريقة في الإقناع تعزز في أحيان كثيرة مصداقية المُدرّب.
ان المطلب الآخر بالنسبة للمدرب على حقوق الإنسان هو التحديد بوضوح أي أداة من أدوات حقوق الإنسان هي التي تسمح بعلاجات أو مطالب محددة من قبل الأفراد المتأثرين من سلوك الدولة، وأي أداة تتضمن ما يتوجب على الدول المشاركة، والتي يمكن مراقبتها (مثلاً، من خلال التدقيق بتقارير الدولة). والتي قد لا يمكن فرضها بأي طريقة أخرى.
إن إجراءات الالتزام باتفاقية المجموعة الأوروبية لحقوق الإنسان تُشكّل أكثر الآليات تقدماً وفعالية في المحاكم الدولية بالنسبة للأفراد الذين يعتقدون بأنهم ظُلموا من قِبَل محاكمهم الوطنية (ليس كمتهمين بل أيضاً كضحايا). بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال تدريس المحامين كيفية التماس الإنصاف بموجب اتفاقية المجموعة الأوروبية لحقوق الإنسان (التي تنطبق فقط على الدول الأعضاء التي وقعت عليها وعلى البروتوكولات الملحقة بها) يستطيع المُدرّب على حقوق الإنسان استعمال السوابق القانونية المستندة إلى اتفاقية المجموعة الأوروبية لحقوق الإنسان.
الإنصاف. تهدف معايير عديدة لحقوق الإنسان إلى توفير التوجيه وتحديد المبادئ. من الضروري ان تكون القواعد الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان عامة في طبيعتها، وبما انه ليس المقصود منها انتقاء خطة من الخطط الوطنية العديدة، فالمطلوب هو ان تتوافق خطط وطنية مختلفة عديدة مع هذا المفهوم الشامل. استناداً إلى ذلك، نادراً ما توفر معايير حقوق الإنسان مواصفات دقيقة تتعلق بالمدة الزمنية القصوى للاحتجاز أو أمور أخرى تتعلق بالإجراءات.
يجب ان يكون المُدرّب على حقوق الإنسان واضحاً حول من أو ما هي السلطة التي تستند إليها الإجراءات التفصيلية. فمثلاً قد يُسأل المُدرّب، "ما هو طول المدة التي يجوز لدائرة الشرطة أن تحتجز المشتبه به بعد توقيفه وقبل تقديمه إلى المحاكمة؟" يستحق الذين يتلقّون التدريب على حقوق الإنسان ان يعاملوا باحترام وإنصاف، وان يتم إخبارهم عن مصدر المعلومات المعتمدة لتمكينهم من اختيار مستوى المصداقية التي يمكن نسبها إلى ذلك المصدر. فمثلاً، هل ان المصدر هو قرارات محكمة المجموعة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، أو لجنة حقوق الإنسان المكونة من خبراء مستقلين تعينهم الدول الأعضاء في المعاهدة الدولية للحقوق السياسية والمدنية، أو مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أو المجلس الأوروبي، أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أو منظمة العفو الدولية، أو جمعية مراقبة حقوق الإنسان، أو أساتذة قانون فرديين، وغيرهم من خبراء حقوق الإنسان، الذين قد يكون لكل واحد منهم وجهة نظر مختلفة أو رأي مختلف؟
يجب ان لا يَفترض المُدرّب إجراءات تفصيلية غير مقررة لأنه يعتقد أنها الأفضل أو لأن دولته تعتمد هذه الإجراءات في مشاريعها القانونية. في كوسوفو، سمعت بعض محامي حقوق الإنسان يقولون إن المدة القصوى لاحتجاز الموقوف قبل تقديمه أمام القضاء هي 48 ساعة. استند هذا التحديد على اختيار ما اعتبروه المعيار، مستندين على ما اعتمدته دول أوروبية أخرى في قوانينها، دون تحديد من هي تلك الدول.
في حين أن الإجابة قد تكون أطول وأقل تحديداً إلاّ أنه قد يكون من الأفضل والأكثر دقة، من الوجهة القانونية، القول: "إن اتفاقية المجموعة الأوروبية لحقوق الإنسان في المادة 5 (3) منها، والمادة 9(3) من المعاهدة الدولية للحقوق السياسية والمدنية تطلب تقديم المُلقى عليه القبض بسرعة أمام القضاء. ذكرت محكمة المجموعة الأوروبية لحقوق الإنسان ان أربعة أيام وست ساعات قد تكون طويلة جداً في القضايا التي تتعلق بالإرهاب، ولكن في قضايا أخرى، أكدت محكمة ستراسبورغ انه حتى أربعة أيام قد تكون طويلة جداً للإجراءات الجنائية الاعتيادية، رغم أنها قررت أيضاً عكس ذلك في قضايا سابقة. مثل قضية بروغن ضد المملكة المتحدة (1989)، وقضية برينكات ضد إيطاليا (1993)، وقضية أكس ضد هولندا (1966)، وقضية إيغيه ضد فرنسا (1988) (4 أيام مسموح بها مبدئياً)". وعند مقارنة هذه الإجابة الطويلة مع القول بأن المدة هي "48 ساعة" كما قاله المحامون عن حقوق الإنسان، فإن هذه الإجابة هي الأكثر صحة وتُظهر احتراماً أكثر للجسم القضائي وللمحامين، لأنها تعطيهم جميعاً جميع المعلومات التي يمكن تطبيقها وتسمح لهم بالوصول إلى قرارهم الخاص.
لا ينبغي على المُدرّب أن يفترض ان انتهاك معايير حقوق الإنسان يتطلب أقصى العقوبة أو العلاج، رغم ان المُدرّب قد يفضّل ذلك ويعتقد أنها قد تكون الطريقة الأكثر فعالية لمنع الانتهاك. إذا كان القانون الوطني يسمح باستعمال الإثبات الذي تم الحصول عليه بصورة غير قانونية، فمن الممكن ان يسمح بقبول هذا الإثبات، إذا كان جديراً بالاعتماد عليه، بموجب معايير حقوق الإنسان التي سوف تعتمد في المحاكم دون طلب الحماية، أو المنع، أو الاستبعاد من المحاكمة، مع اشتراط بعض الإجراءات الوقائية.
التوازن. قد يتلقى المُدرّبون على حقوق الإنسان استجابة إيجابية أكثر من المسؤولين عن تطبيق القانون، والمدّعين العامّين، والقضاة إذا أقروا بضرورة إيجاد توازن معقول بين حماية المتهمين والضحايا والمجتمع. ان معظم التشريعات، وبالتأكيد، الإجراءات التفصيلية للمعايير الدولية لحقوق الإنسان قد تم التوصل إليها بعد مفاوضات عديدة، تتعلق بتحقيق التوازن بين هذه المصالح. وفي حين ان الانسجام ممكن دائماً، فإنه من غير الممكن، في بعض مجالات الإجراءات القانونية، منع تأثر فعالية تطبيق القانون بصورة سلبية من خلال زيادة الحماية إلى المتهم.
هناك ضرورة متزايدة للتركيز على حقوق الضحايا، مثلاً، العنف المنزلي والجنسي ضد المرأة والأطفال. وبالأخص في سياق بعثات حفظ السلام، كما في دول مرّت في النزاعات، فان التوازن بين الحقوق الإنسانية للمتهم والأمن للضحايا، يجب ان يؤدي إلى الفرض المبدئي للحد الأدنى من معايير حقوق الإنسان. إن إعلان الأمم المتحدة للمبادئ الأساسية للعدالة لضحايا الجريمة وسوء استعمال السلطة أكدت هذه الحقوق، رغم أنها لم تعطِ أي إجراءات مفصلة.
بصورة مماثلة، ومن أجل المحافظة على المصداقية، يجب ان يتعرّف المُدرّب إلى جهود تطوير أدوات إجرائية خاصة لتأمين التحقيق الفعال والملاحقة القانونية للجريمة المنظمة والإرهاب، والمتاجرة بالمخدرات وبالبشر وبجرائم الحرب، وبمحاولة التوفيق بين هذه الأدوات وبين معايير حقوق الإنسان.
التشريع. في بعض الحالات، يُطلب من المُدرّبين على حقوق الإنسان، أو من يرغب منهم، العمل على التشريع الإصلاحي أو التقويمي. لا يوجد خطر اكبر من خطر الإعداد غير الدقيق للتشريع الحسن النية. ان التدخل، حتى بإسم أهم الحقوق الإنسانية، يجب ان يتم بصورة مهنية، وإلاّ سوف يكون الأذى أكثر في الأمد الطويل، مما هو في الأمد القصير، لمصداقية عمليات التدريب الأخرى على حقوق الإنسان في المستقبل.
يقول جون اوستين، في مقال نُشر في مجلة جوريسبرودنس (التشريع)، "ان ما يُسمّى بصورة شائعة الجزء الفني للتشريع، هو أكثر صعوبة مما يمكن وصفه بالأخلاقي". بكلمات أخرى، من السهل اكثر التصور العادل لما قد يكون قانوناً مفيداً، من إنشاء نفس هذا القانون ليلبي قصد المشرّع. "يعني ذلك ان سنّ القوانين" لا يمكن للهواة حسني النية القيام به. من بين الشروط الأولية للإصلاح التشريعي التي عرفتها، عندما كنت حاضراً أو غائباً، تتضمن ما يلي:
ان لكل من القضاة المحليين والدوليين ولضباط الشرطة أسسا مختلفة من الخبرة: يعرف المحليون قانونهم وظروفهم الاجتماعية، ويكون لدى القضاة الدوليين نظرة جديدة يستطيعون من خلالها "ان يفكروا خارج الإطار" وذلك تحديداً لكونهم لا يشكلون جزءاً من الثقافة القانونية القائمة، ولذلك لا يوافقون في أحيان كثيرة على التقييدات أو الإجراءات لان هذا ما اعتادوا عليه دائماً.
بالإضافة إلى ضرورة التشريع المتوازن الذي لكافة أصحاب المصالح المشروعة حق "الملكية" فيه، فان الطلب والكفاح لتحقيق قانون "مثالي" قد يمنع تبنّي القانون "الجيد". حيث يكون التشريع القائم وحماية حقوق الإنسان غير "جيد"، وحيث يُلحق الكفاح لتحقيق القانون "المثالي" الضرر بإمكانية تحقيق إصلاح تشريعي عاجل، يجب ان تكون صفة قانون "جيد" كافية. فمثلاً في البوسنة، انقسم فريق الخبراء الدوليين في المجلس الأوروبي المتواجدين على الأرض بشأن التوصية إلى المجتمع الدولي حول دعم القانون الجنائي والإصلاحات الإجرائية المعلقة، لان أحد الأعضاء لم يؤمن بأن مسودة القانون كانت كافية لحماية حقوق الإنسان، رغم ان الجميع وافقوا على انه القانون الجديد أفضل كثيراً من القانون الحالي. قد تؤخر هذه المعارضة كثيراً الإصلاح المحتمل ولكن النقاش لصالح القانون "الجيد" تغلّب على من طلبوا القانون "المثالي".
المجتمع المدني. على المُدرّبين على حقوق الإنسان التشديد على المجموعات المختلفة التي يعملون معها بأن المطلوب هو جهد موحد لدعم تشريع حقوق الإنسان، والتدريب عليها، وتقديم ضمانات في تطبيق القانون والمجالات القضائية، التي قد تشمل أيضاً القدرة والإرادة على التحقيق في الملاحقة القضائية لانتهاكات حقوق الإنسان، وبالأخص عندما يكون أفراد الشرطة أو موظفو الحكومة هم من يرتكبون هذه الانتهاكات.
في تنزانيا، اجتمع مدافعون عن حقوق الإنسان، ومنظمات نسائية غير حكومية، ومدّعون عامّون وقضاة، للاتفاق على خطط مشتركة لمعالجة وتقديم الاستشارات والتحقيق في ومقاضاة جرائم الجنس والعنف المنزلي، ونتج عن هذا الاجتماع الاتفاق على إحالة المجرمين من قبل الشرطة والمدّعين العامّين إلى المنظمات غير الحكومية لتزويد الضحايا بالمشورة والدعم. وافقت المنظمات غير الحكومية على أن تنصح الضحايا بأنه من الأفضل لمصلحتهم الاتصال بالشرطة والمحاكم عند الاعتداء عليهم. كما وافقت أيضاً المنظمات غير الحكومية على دعم الضحايا خلال هذه الإجراءات القانونية. وقامت الصحافة بمهمة التعليم المتعلق بالخيارات الوقائية التي تؤمنها المنظمات غير الحكومية بالنسبة لقضايا العنف المنزلي والاغتصاب. بهذه الطريقة، وجدت جميع هذه العناصر المتباينة مصالح مشتركة تلبّي جميع أهدافها.
عند القيام بالتدريب على حقوق الإنسان، يجب ان يكون المُدرّب على علم بوجود، وان يذّكر، مثل هذه المنظمات كالمنظمات غير الحكومية ونقابات المحامين، والصحافة، وحتى الشرطة، والسلطات القضائية، بالنتيجة المحققة من الكفاح لتصبح الدولة مجتمعاً مدنياً يعمل بانتظام. ان فوائد العيش في مجتمع كهذا تفرض مسؤوليات مقابلة لها، لكن إذا قمنا بالجهد، والنشاط، والمثابرة، والرغبة في العمل معاً وإيجاد مصالح مشتركة، فان التغيير الإيجابي ممكن بالتأكيد.