التدخل الإنساني وغير الإنساني!

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

التدخل الإنساني وغير الإنساني!

المصدر: الأهرام اليومى

د. محمد قدرى سعيد


مرة أخرى يتردد مُصطلح «التدخل الإنساني»، أو التدخل العسكرى «لأغراض إنسانية»، حيث يُفترض فى هذه الحالة عدم وجود مصلحة ذاتية أو أسباب أيديولوجية لتبرير التدخل فى دولة ما. ففى الآونة الأخيرة صارت المنطقة العربية ساحة مفتوحة لتدخل الدول الكبرى عسكريا وسياسيا لدعم حركات شعبية ضد نظم فقدت شرعيتها، وتحولت العلاقة بين النظام الحاكم وقطاعات واسعة من الشعب إلى حالة صراع مُمتدة لعقود طويلة. لم يعد التدخل مقصورا على دول كبرى من أعضاء مجلس الأمن فحسب، بل أيضا من دول ذات نفوذ إقليمى ترى أن من واجبها التدخل سياسيا وأحيانا عسكريا لتحقيق الاستقرار فى دولة مُعينة ودفعها بعيدا عن خطر الانغماس فى نزاعات وحروب أهلية. تركيا على سبيل المثال قدمت مؤخرا نصائح كثيرة إلى القيادة السورية من أجل إقامة نظام ديمقراطى حقيقى فى سوريا وإيقاف العمل بقانون الطوارئ. وكذلك فى البحرين تدخلت قوات درع الجزيرة للتعامل مع حركات احتجاجية تطالب بالتغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما مصر فقد تعرضت قبل وأثناء ثورتها الأخيرة إلى تدخلات مُختلفة لم تزد كثيرا عن مجرد ضغط من الخارج على الرئيس السابق للتنحى من جهة وتشجيع المجلس العسكرى الأعلى فى سعيه إلى مزيد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان من جهة أخري.

نظرية "التدخل الإنساني" جاءت إلى منطقة الشرق الأوسط منذ عقود مُتخفية تحت أسباب إنسانية، ثم تطورت إلى تدخل لإيقاف حروب أهلية كانت وراء مقتل أعداد هائلة من المواطنين، وانقسام الدولة الواحدة إلى عدد من الدويلات المُمزقة مثلما حدث فى الصومال وفى السودان وربما أيضا فى اليمن فى المستقبل. وتُعتبر حالة العراق نُموذجا صارخا للتدخل الكامل بقيادة الولايات المتحدة وبدون موافقة من مجلس الأمن. وتبدلت أسباب التدخل فى العراق كما تخيلته الولايات المتحدة بين البحث عن أسلحة للدمار الشامل ومحاربة الإرهاب أو بناء ديمقراطية واعدة لكن ذلك لم يتحقق كاملا حتى الآن. لقد دفع الشعب العراقى ثمنا فادحا لهذه الحرب، ووصفت الأمم المتحدة التدخل الأمريكى فى العراق بأنه «غير قانوني» و«غير إنساني». ولاشك أن العراق تخلص من نظام استبدادى قاس لكنه سوف يحتاج إلى سنوات عديدة قبل أن يمتلك ثقافة ديمقراطية حقة خاصة أن العراق واقع مع السعودية ودول الخليج تحت ظل إيرانى كثيف. لقد أدى التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق إلى فتح الباب على مصراعيه أمام جدل عالمى وعربى حول شرعية وأخلاقية هذا النوع من التدخل وتبعاته الدولية والإقليمية والمشكلات والمصاعب التى تواجه عملية إعادة البناء السياسى والاقتصادى والاجتماعى بعد أن دمرته العمليات العسكرية.
أهم ما فى مفهوم «التدخل الإنساني» فكرة «التدخل الجماعي». بدءاً من عام 1990 وقع حادثان مُهمان تمخض عنهما ميلاد نظام عالمى جديد تمثل الأول فى انهيار الاتحاد السوفيتي، أما الثانى فتمثل فى الغزو العراقى للكويت. فبعد أن صدرت قرارات مجلس الأمن الدولى بإدانة العدوان العراقى اتفق أعضاء المجلس بما فى ذلك الولايات المتحدة على القيام بعمل جماعى وليس أحادي. وقد فتح هذا الاتفاق الباب أمام التدخل الجماعى فى كثير من الصراعات الداخلية والدولية باستخدام القوة العسكرية أولا وإتباعها بعد ذلك بعدد من الآليات مثل عمليات حفظ السلام، و العقوبات، و مشاريع إعادة بناء الدولة. وبناءً عليه قامت قُوى إقليمية ودولية ذات نفوذ بتدخلات عسكرية ليست من أجل خدمة مصالحها بل من أجل منع كوارث إنسانية أوالحفاظ على السلام والاستقرار كما حدث فى ليبريا عام 1990، وفى شمال العراق عام 1991، وكوسوفو عام 1999، وسيراليون عام 2000. وهذا ما نلحظه الآن فى العمليات العسكرية الجارية فى ليبيا بواسطة «التحالف الدولي» أو حلف الناتو مُؤخرا.
وتثير هذه «التدخلات الإنسانية» قضايا شائكة يصعب حلها أحيانا بواسطة الدول المُشاركة، كما تُمثل مُعضلات مُعقدة للمنظمات الدولية والإنسانية. إن التدخل العسكرى مهما كانت دوافعه الإنسانية يُثير ويطرح اعتبارات قانونية وأخلاقية وسياسية أمام المجتمع الدولي. وبعد كل تدخل تقوم الدول المشاركة فيه بِسَوْق الكثير من المبررات والأسباب لتغطية تدخلها، بينما تسوق دول أخرى فى المقابل عددا من البراهين لإدانة تلك المُبررات والأسباب. ونتيجة لهذا الجدل المُتبادل خضعت دواعى التدخل العسكرى الإنسانى لضوابط صاغها المُجتمع الدولى مستندا إلى القانون الدولي، ومدى منطقية التدخل العسكرى أو تقبله من الدول بصورة فردية أو جماعية، وطبيعة رؤية الرأى العام له مُمثلا بوسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية والمجتمع الأكاديمى والمنظمات الدولية. وهناك أيضا بعد سياسى مهم يستند إلى اعتبارات عملية مثل الاضطرار إلى التدخل، والفوائد المُحتملة للأطراف المُشاركة، وجدوى العملية العسكرية، وردود الفعل والتصرفات المُحتملة من قبل الدول الأخري. وكذلك البعد العملياتى خلال المراحل المُختلفة للعمليات العسكرية. وكقاعدة عامة، لا يكون الدافع وراء التدخل الجماعى السعى من أجل مصالح قومية للقوى العظمى أو البلدان القائمة بالتدخل، ولكنه يُنظر إليه بالأحرى كآلية لتنفيذ الأهداف الرئيسية للسلام والأمن العالميين أو السلم الإقليمي. وتحت مظلة التدخل الجماعى استطاع مجلس الأمن الدولى التدخل فى الشئون الداخلية لبعض الدول من خلال سلطة أو إدارة دولية لها بعض الصلاحيات الجوهرية. وقد فرضت طبيعة "التدخل الجماعي" مُعالجات جديدة لجوانب العمل العسكرى انبثقت من حقيقة أن العمليات العسكرية لا تقوم بها دولة واحدة، وأنها لا تهدف إلا لمصلحة إنسانية متعلقة بالشعب.
وبين كل الحالات الساخنة فى المنطقة العربية نجد الحالة الليبية مثالا ناضجا لمفهوم التدخل الإنسانى فى صورته الحديثة المُطورة لتناسب تلك الظاهرة الاحتجاجية والثورية اللافتة فى العالم العربي. فالأحداث على الأرض كانت قد وصلت إلى صدام دامى بين القوى الشعبية الثائرة من جهة والعقيد القذافى وقدراته العسكرية من جهة أخرى والتى لم يتردد فى استخدامها ضد المدنيين. وعندما مرت الحالة على الجامعة العربية والاتحاد الأوروبى ثم فى النهاية مجلس الأمن صدر قرار الأخير بالتدخل عسكريا لحماية المدنيين. وترى الأمم المتحدة أن التدخل العسكرى فى هذه الحالة لا يمس السيادة الليبية لأن الإجراء يستند إلى مبدأ «مسئولية الحماية» Responsibility to Protect الذى أقرته الأمم المتحدة منذ عشر سنوات تقريبا. وهناك بطبيعة الحال من ينتقد هذا المبدأ ويراه طريقا خلفيا للتدخل التعسفى فى شئون الدول ذات السيادة. لكن فى نهاية الأمر يبقى الحكم على هذا التصرف متروكا للضمير العالمي، وكيفية رؤيته للعقيد القذافي، وتاريخه وتصرفاته وموقف الشعب الليبى منه. وقد تخلى عن العقيد القذافى كثير من الدبلوماسيين الليبيين فى الجامعة العربية والأمم المتحدة ثم وزير خارجيته مُؤخرا.
فى إطار ما سبق يتبقى الجانب العملياتى التطبيقى للموضوع وكيفية تفصيله على الحالة الليبية. والخيار بدأ بفكرة فرض حظر جوى يحرم على العقيد القذافى السيطرة الجوية ويمنعه من استخدام ذلك فى ضرب تجمعات الثورة. وقد اتخذت العملية العسكرية مُنحنى صاعدا لكن ببطء حتى يعطى للعقيد الليبى فرصة الانسحاب من المعركة وتسليم السلطة للقوى الشعبية ممثلة فى المجلس الانتقالى الليبى وذلك حقنا للدماء وتجنبا لحرب أهلية سوف يدفع تكلفتها الشعب الليبي، وأيضا لخفض كُلفة التحالف الدولى الذى بدأ أولا بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة ثم انتهى بإعطاء المسئولية لحلف الناتو الذى من جانبه أخذ خطوات بطيئة كانت ومازالت محط نقد من المجلس الانتقالى الليبى ومصدر تشجيع لقوات العقيد القذافى للتحرك صوب الشرق والسيطرة على أماكن لم تكن تحت سيطرته. وبجانب العمليات العسكرية هناك أدوات أخرى دولية سوف تُستخدم ولها علاقة مباشرة بالجانب الإنسانى فى تلك المسألة وهى المحكمة الجنائية الدولية وما يمكن أن تفعله لمحاسبة القذافى ونظامه الأمنى والعسكرى فى ضوء قائمة الجرائم الطويلة التى اقترفها هو وكثير من المحيطين به.