"إنهم لا
يقبلون أي شكل من أشكال الخضوع، و كالنمور لا يخشون مهاجمة السماء"
إسماعيل
كاداري، رواية طبول المطر
يفترض ان تكون قد
أصيبت الحكومة السورية، ومشاركوها الراي من النخب السورية، بصدمة مع صدور
تقرير يؤكد هراء الادعاء بان احد اهم اسباب ارتفاع الاسعار وسياسة رفع
الدعم عن المواد الاساسية هو تواجد اكثر من مليون ونصف لاجئ عراقي علي
الاراضي السورية، والصدمة اتت من ان مصدر التكذيب ليس سوي عراب السياسات
النيو ليبرالية للحكومة السورية اي صندوق النقد الدولي نفسه الذي جاء في
تقريره ان الانتعاش الاقتصادي منذ عام 2004 اكتسب زخما مستفيدا من
اللاجئين العراقيين ووفرة السيولة في منطقة الخليج واكد التقرير ان
اللاجئين في سورية فيما يعتقد يعيشون اساسا علي مدخراتهم والانفاق
العراقي في سورية علي السلع والخدمات والموجودات مثل العقارات يعادل 7.3
في المئة من اجمالي الناتج المحلي في عام 2006. وفقدت الحكومة بذلك -الي
حد ما- حجة ارادت التلاعب بها ساعدت علي خلق جو من العنصرية يسمح لها
بتمرير سياسات لا اجتماعية شرسة. اما الحجة الثانية، التي تبرر بها هذه
السياسات النيوليبرالية، فهي حديثها الممجوج عن المقاطعة والتهديدات التي
تتعرض لها سورية، لان هذه الحجة تتهاوي لوحدها لسبب مباشر وبسيط هو ان
متطلبات مواجهة هذه التهديدات انما تتطلب سياسات مغايرة تماما لتلك التي
تقوم بها الحكومة السورية وعلي كافة الصعد.
نيوليبرالية متوحشة
والحال،
فقد تنطح، مرة اخري، السيد الدردري لاعلان خطة لتخفيض الدعم وخاصة عن
المشتقات النفطية. وقد أثارت هذه الخطة الحكومية، بمجرد الإعلان عنها،
ارتفاعا مذهلا في أسعار كافة المواد المعيشية الأساسية وليس فقط النفطية.
وان اضطرت الحكومة الي الاعلان عن تراجعها مؤقتا عن خطتها هذه، خشية ردود
فعل جماهيرية بدأت تباشيرها الاولي، الا انها - براينا - حققت احد
الاهداف التي سعت اليها وهو تحقيق رفع اسعار المواد المعيشية، تحت غطاء
تراجعها المزعوم عن دعمها للمشتقات النفطية. انها سياسة رفع الفزاعة عن
امر ما لتمرير امر اخر.
وكما
قالت احدي المواطنات في صحيفة رسمية الله يرحم ايام زمان، فاليوم تغيب
الشمس علي سعر وتشرق علي سعر اخر اغلي. (تشرين 4/9/2007).
ووصلت
الأزمة الي حد انه صدرت أصوات في الصحافة الرسمية تقر بما هو معروف، اي
ان سبب الأزمة هو وقوع الحكومة تحت ضغط الافكار الليبرالية (الثورة،
5-9-2007). وصرخت بعضها الآخر: من يعيد هذا الوحش الي عقاله؟. في حين
ارتفعت اسعار بعض المواد المعيشية الي اكثر من 500 في المئة.
هذه
الازمة المتفاقمة والطاحنة التي تمس أساسا الطبقات الشعبية تحمل في
طياتها نذر انتفاضات جماهيرية. وقد دفعت بشائرها الأولي ببعض الأحزاب
الحليفة للحكومة بان تحذر من إن أسلوب المعالجة بالصدمة قد ثبت، في اكثر
من مكان، مدي ضرره بل وخطورته، طبعا دون ان تنسي هذه القوي الانتهازية ان
تؤكد في الوقت نفسه رفضها بالطبع كل اشكال المزايدة والشعبوية غير
المسؤولة (النور 29/8/2007).
لا ريب
بان سياسات الحكومة السورية تقوم علي مبدأ أساسي هو إن الطبقات المطالبة
بدفع فاتورة سياساتها الاقتصادية والاجتماعية هي دوما الطبقات المأجورة
والمفقرة. وهي باستمرار قيامها بذلك انما تعمق من فرز المجتمع الي
طبقتين: فقراء محرومين وأغنياء متخمين (الكفاح العربي، 1/9-/2007). انها
باختصار: حكومة الرأسماليين والأغنياء.
نهوض
نضالات الجماهير المفقرة
كشر
الوحش عن انيابه، هذا ما قالته احدي الصحف الرسمية، لان الهجوم الحكومي
علي الطبقات الماجورة والفقيرة، لم يكتف بالاعتداء علي قوت حياتها من
خلال غلاء المعيشة وتدهور الاجور، وحرمانها من حرية ووسائل التعبير عن
مطالبها، بل انه وصل حتي الي حرمانها من مأواها وسكنها البائس في ما يسمي
بأحزمة الفقر.
وليست
قليلة العدد مناطق تجمع الطبقات المفقرة المسماة باحزمة الفقر، كما انها
ليست حكرا علي العاصمة فقط. بل انها تعني جميع المدن السورية وهي - وفق
تقرير رسمي - تقدر بـ (120) حزام وتقدر مساحتها باكثر من 63 بالمئة من
المساحة العمرانية.
وقامت
الحكومة بعملها هذا بحماس نادر، فقد شهد العامان الماضيان، وبشكل اخص هذا
العام، تسارعا لعمليات هدم الاحياء الفقيرة، بحجة انها احياء عشوائية
لصالح المقاولين العقاريين وغيرهم من الفاسدين.
ولكن ما
يثير اهتمامنا في هذا السياق هو المقاومة الجماهيرية التي برزت في مواجهة
هذه السياسات الفظة للحكومة. وشهدت البلاد، ما لم تشهده منذ زمن طويل،
مواجهات بين قوي الامن والجماهير المحتجة بالمئات علي تدمير منازلها. فقد
اصيب واعتقل العشرات من المواطنين في هذه النضالات التي حدثت في منطقة
المعصرانية في حلب او قرية المزرعة قرب حمص (اب/اغسطس وايلول/سبتمبر 2007
)، وقد قام المئات من مواطني الاخيرة (600 مواطن) باعتصام امام قصر
الروضة في دمشق لاسماع صوتهم. وكان قد سبقها قبل عام (ايلول/سبتمبر 2006)
تظاهرات وصدامات اخري مع قوي الامن في مسكن الديماس في دمشق..
وترافقت
هذه النضالات ايضا في شهر اب/اغسطس من هذا العام مع اضراب سائقي السرفيس
في قطنا وخان الشيح.
لقد كان
متوقعا تنامي النضالات الجماهيرية كرد علي تسارع السياسات اللااجتماعية
للحكومة، لكن ما تزال هذه النضالات يانعة ومتفرقة، لم يستفد اي منها من
خبرات النضالات الاخري. ولم تستطع الجماهير المشاركة فيها بعد من اكتشاف
اشكال التنسيق والمتابعة لها. واذا كان يفسر هذا افتقار ذاكرتها لنضالات
سابقة ودروسها، من جهة، مع غياب لقوي سياسية تنخرط فيها وتدعمها وتوحد
فيما بينها، من جهة اخري، الا ان مما لا ريب فيه ان الجماهير المناضلة
دفاعا عن مصالحها وقوت عيشها وكرامتها وفي مراكمتها للخبرات من خلال
نضالاتها المتعددة ستكتشف بنفسها افضل الاشكال لنضالاتها وتوفير وسائل
نجاحها.
وهذا
التنامي للنضالات محكوم بالازدهار، ولن تتوقف المقاومة الجماهيرية
للسياسات النيوليبرالية للحكومة المتزايدة الشراسة. هذه النضالات
الجماهيرية برزت في المدن، ويبدو انها ستكون ذات طابع مديني عموما،
وخصوصا اذا عرفنا (وفق دراسة للامم المتحدة) ان ثلثي سكان المعمورة- وليس
سورية فحسب- اصبحوا من سكان المدن واحيائها. كما نتوقع تنوع النضالات
الجماهيرية القادمة التي تنهض علي مطالب مباشرة لكل من المأجورين
والمفقرين والعاطلين عن العمل ومهمشي المدن....
ولاننا
نري ان الجماهير لا تنطلق في نضالاتها سلفا علي اساس برامج سياسية معلبة
وجاهزة، بل من اجل مطالب اصلاحية ديمقراطية واقتصادية واجتماعية، ولكي
يتم النفاذ من حالة الاحباط السياسي والعملي التي تتجلي بميل عام لاختزال
العمل النضالي في برامج انشائية تفتقر للحياة لانها لا تقتصر فحسب علي
(النضال) في المرحلة الراهنة من اجل تحسين المستوي المعيشي للجماهير
الشعبية، بل بالاخص، لانها بدون ادني نشاط ملموس في هذا الخصوص.
لذلك،
فان وجود يسار اشتراكي نضالي يرتكز علي التراث الماركسي الثوري، وان كان
في صيغته الاولي الدعاوية، يصبح مهمة ملحة وضرورية، من اجل الانخراط في
هذه النضالات الجماهيرية وتقييم دروسها وتعميقها.
ان خطوة
عملية واحدة علي هذا الدرب هي أفضل من مائة برنامج كهذا.
وعلي
سؤال الصحيفة الحكومية من يعيد هذا الوحش الكاسر الي عقاله؟، فان جوابنا
هو: ان النضالات الجماهيرية وحدها هي القادرة علي ذلك.
صحيفة
القدس العربي اللندنية - الاثنين 08 تشرين الأول/ أكتوبر 2007