التربية على حقوق الإنسان

طباعة

التربية على حقوق الإنسان

عبد المجيد الانتصار

..وحتى وإن فتح القارئ تفكيره على هذا المستوى، الذي لم ينجز بعد، لا في هذا المقال فقط، بل في الواقع أيضا؛ فإن ذلك لا يعني أنه مع استحضار المستوى السياسي سينتهي موضوع حقوق الإنسان؛ إذ هو موضوع لا يمكن انتهاؤه، ولا ينبغي أن ينتهي، لأنه موضوع الحياة، وموضوع الكرامة، وخصوصا إذا أردنا لهذا المشروع أن يدخل حقل التربية والتعليم والتثقيف.

1 – تقديم:

إن الحديث عن موضوع حقوق الإنسان هو حديث عن الفضاء العام لتنمية الثقافة وتحديث المجتمع، ذلك أن التطلع إلى التنمية والتحديث لا يستقيم دون استحضار الحق في التعلم، وفي حرية الرأي، وفي الاختلاف والمساواة والديمقراطية، وفي الكرامة والتسامح، أي دون استحضار البنية العامة لثقافة حقوق الإنسان وجهازها المفاهيمي والقيم والسلوكات التي تنبثق عنها.

انطلاقا من هذا التصور يتأسس إنجاز هذه المقالة على الاعتبارات الآتية:

1 ـ إن تربية المرء على حقوق الإنسان عمل يهدف إلى ترسيخ ثقافة تدافع عن الإنسان، عن حقوقه في الوجود والتفكير والممارسة، وهو أمر له مشروعيته في عالم مليء بمظاهر انتهاك حقوق الإنسان، دوليا وقوميا، وعلى مستوى الأقطار المختلفة، ومنها العربية.

2 ـ إن هذه التربية، ولأنها تقصد خدمة الكائن البشري، هي المقدمة المنطقية والواقعية لكل عمل هادف إلى تنمية العنصر الإنساني وتثقيف قيمه وسلوكه، كمدخل ضروري لتنمية المجتمع وحداثته.

3 ـ إن التربية على حقوق الإنسان استجابة للأسلوب التربوي الحديث، ويتعلق الأمر بدعوة المربين المحدثين إلى انفتاح المؤسسة التربوية التعليمية على محيط الأطفال والمراهقين والشباب. وهكذا، فإن الانفتاح على ثقافة حقوق الإنسان هو انفتاح على ما يعرفه المحيط الثقافي والاجتماعي للمتعلمين من تصورات وقيم وسلوكات.

على ضوء هذه الاعتبارات يصبح ضروريا تجاوز الاهتمام بحقوق الإنسان في المناسبات والاحتفالات ببعض الأيام، مثل يوم الإعلان العالمي أو يوم الطفل أو يوم المرأة أو يوم التسامح؛ وذلك كي يصبح الاهتمام بمسألة حقوق الإنسان اهتماما يوميا هادفا ومسؤولا وعقلانيا ومنظما. ولعل اختيار التربية كمدخل لنشر ثقافة حقوق الإنسان وترسيخها هو بمثابة استراتيجية متينة لتحقيق هذا المشروع. ومساهمة في نشر هذا النوع من الاهتمام التربوي بحقوق الإنسان نضمن مقالتنا هاته تعريفا حول عبارة "حقوق الإنسان"، ثم نبين معنى "التربية على حقوق الإنسان" وخصائصها ومستوياتها؛ وذلك إيمانا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا العربيين إلى تدارس هذا الموضوع والنظر في إشكالياته.

2 ـ حقوق الإنسان والمدخل التربوي:

لقد أصبحت عبارة "حقوق الإنسان" تقال على كل لسان، ولا يكاد يخلو منها خطاب فكري أو صحافي. وكلما اتسعت رقعة الانفتاح الثقافي والتلاقح الحضاري، والتي يزيدها الإعلام اتساعا كل يوم، كلما كثر استخدام عبارة "حقوق الإنسان"، وتبنى كل من يستخدمها مهمة الدفاع عنها؛ وكأن هذه المهمة غدت اليوم رمز الموقف الحداثي التحرري والخطاب النضالي. وتشترك في ذلك مختلف الخطابات، وإن تباينت مرجعياتها ومقاصدها. فجميع الخطابات تتحدث باسم "حقوق الإنسان"، وإن كان بعضها يتأسس –مثلا- على جهاز مفاهيمي علمي، وكان بعضها الآخر يتأسس على جهاز مفاهيمي لاهوتي، وكان البعض منها أيضا يستند على مرجعيات عقلانية...

... ولكن، لنقف قليلا عند هذه العبارة، أي "حقوق الإنسان"، ونتساءل: ماذا تعني؟؟ وما هي دلالتها؟؟.

إذا رجعنا إلى أحد منشورات الأمم المتحدة، الصادر عن مركز حقوق الإنسان (جنيف) سنة 1989، نقرأ فيه ما يلي: "يمكن تعريف حقوق الإنسان تعريفا عاما بأنها تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا، والتي لا يمكن بدونها أن نعيش كبشر. فحقوق الإنسان والحريات الأساسية تتيح لنا أن نطور وأن نستخدم بشكل كامل صفاتنا البشرية وذكاءنا ومواهبنا ووعينا، وأن نلبي احتياجاتنا الروحية وغيرها من الاحتياجات. وتستند هذه الحقوق إلى سعي الجنس البشري المتزايد من أجل حياة تضمن الاحترام والحماية للكرامة المتأصلة والقيمة الذاتية للإنسان".

يفيد هذا التعريف أننا عندما نستخدم عبارة "حقوق الإنسان" فإنما نفهم منها ونريد بواسطتها الدلالة على ثلاثة أبعاد:

أ ـ البعد الوجودي (دلالة الكينونة):

وذلك من حيث إن "حقوق الإنسان" هي قيم أو مبادئ تميز الكائن البشري عن غيره من الكائنات، فهو بطبيعته موجود عاقل وحر. وهو في الأصل كائن تتحدد كينونته بامتلاكه لذاته وإمكانياته الجسدية والفكرية، والتي له الحق في امتلاكها وممارستها، بل إن امتلاكها وممارستها ضروريان لتمييزه كموجود، ككائن بشري. وربما جاز القول، ولو مجازا، وباستلهام لغة الفيلسوف الفرنسي ديكارت: "أنا أمتلك حقوقا فأنا موجود".

ب ـ البعد الحيوي (دلالة الشخصية):

بعد دلالتها على الأساس الطبيعي الوجودي والأول للكائن البشري، فإن عبارة حقوق الإنسان تدل على ممارسة الشخصية لحياة تستجيب لطبيعتها وأصلها. وهنا تتوقف هذه الاستجابة على نقل حقوق الإنسان من كونها قيما متأصلة في كينونة الموجود إلى ممارسات حيوية تسمح له بالتعبير عن مختلف أبعاد شخصيته كاملة، وعن جميع إمكانياته واحتياجاته الغريزية والذهنية والروحية.

ج ـ البعد الاجتماعي المدني (دلالة القانون):

ثم تحمل عبارة حقوق الإنسان دلالة على تنظيم المجتمع البشري لتلك الحقوق الطبيعية والأصلية بواسطة تشريعاته؛ وذلك بوضع قوانين تحمي الحقوق وتضمنها. إن هذا المستوى الاجتماعي المدني يستجيب إلى تطلع الإنسان المستمر لكي يحيا حياة تميزها الكرامة، وينعم فيها بالأمن، وبالتالي بكافة حقوقه.

ترتبط حقوق الإنسان، إذن، بذات الكائن البشري في وجوده الأصلي. كما أنها تعبر عن مختلف أبعاد شخصية الإنسان، وتدخله في تنظيم قانوني واجتماعي يحدد الحقوق والواجبات، ويضمن ممارستها واستمرارها. ومن هنا أصبحت حقوق الإنسان موضوع توثيق من طرف الهيئات والمنظمات الدولية والقومية والوطنية، الحكومية أو غير الحكومية. كما غدت تلك الحقوق موضوع دفاع ونضال في المؤتمرات والملتقيات، سواء في صيغتها الموحدة والعامة المعبر عنها بـ"حقوق الإنسان"، أو في صيغتها المتعددة والخاصة المعبر عنها بـ"حقوق الطفل"، أو "حقوق المرأة"، أو "حقوق الشيوخ"، أو "الحقوق الثقافية"، أو "الحقوق السياسية"، أو "الحقوق الاجتماعية"، أو "الحقوق الاقتصادية"، أو "الحقوق البيولوجية" الخ.

وقد اعتبر التدريس، إلى جانب وسائل أخرى، جسرا رئيسيا يمكن أن تعبر منه تلك الحقوق لكي تشيد لها موقعا ثابتا في شخصية الفرد وفي النسق المجتمعي، إذ "لا يقل التدريس أهمية عن جميع الأعمال" التي تقوم بها الجهات المهتمة بقضايا الإنسان، بل إن هذه الجهات نفسها تؤكد على أهمية التدريس في تعزيز حقوق الإنسان، وفي توسيع مجال التعريف بها، ودعمها وترسيخ قيمها ومبادئها. ولنا في الأمثلة الآتية بيان على ذلك:

أ ـ "دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنة 1968، إلى تدريس حقوق الإنسان بالتدريج في المقررات الدراسية للمرحلتين الابتدائية والثانوية. ودعت إلى اغتنام كل فرصة لاسترعاء اهتمام طلابهم إلى الدور المتزايد الذي تلعبه منظومة الأمم المتحدة من أجل تعزيز العدل الاجتماعي…".

ب ـ وفي مؤتمر طهران، سنة 1968، تقرر "أن تدعى جميع وسائل التعليم من أجل إتاحة الفرصة للشباب لأن يشب بروح احترام الكرامة الإنسانية والتساوي في الحقوق".

ج ـ وفي سنة 1978، تم تنظيم مؤتمر دولي في "فيينا"، من طرف اليونسكو، حول "تدريس حقوق الإنسان".

د ـ وفي يونيو 1989 نظمت النقابة الوطنية للتعليم بالمغرب ندوة حول: "حقوق الإنسان في المدرسة المغاربية".

..هذه نماذج قليلة فقط من دعوات وقرارات كثيرة، صدرت عن جهات مختلفة، تتجه جميعها إلى تأكيد ضرورة تعزيز حقوق الإنسان ودعمها "من خلال برامج فعالة للتدريس والتربية والإعلام"؛ وذلك إيمانا بالدور الإيجابي الذي يمكن أن تقوم به التربية والتعليم في التوعية بحقوق الإنسان، مما يتطلب أن تصبح هذه الحقوق جزءا من المقررات الدراسية، وأن تدخل كعنصر أساسي في بنيتها.

3 ـ التربية على حقوق الإنسان: ماهيتها وخصائصها

إن هذا الاتجاه إلى تعزيز حقوق الإنسان من داخل العملية التعليمية، وفي إطار الممارسة التربوية، هو ما ينعت اليوم بـ"التربية على حقوق الإنسان"، وهو اتجاه لا يقصد تعليم معارف وتصورات حول حقوق الإنسان للأطفال والمتعلمين، بقدر ما يرمي إلى تأسيس القيم التي ترتبط بتلك الحقوق.

ليست التربية على حقوق الإنسان "تربية معرفية"، بل هي "تربية قيمية" بالدرجة الأولى؛ فاهتمام هذه التربية "بالجانب المعرفي لا يعد قصدا نهائيا من هذه التربية، فهي تتوجه بالأساس إلى السلوك. وإذا ما تبين أحيانا أن هناك اهتماما بالمحتوى المعرفي، فإن مثل هذا الاهتمام لا يتجاوز كونه مدخلا أساسيا للمرور إلى قناعات الفرد وسلوكاته".

لا تكتفي هذه التربية الحقوقية بحشد الذهن بمعلومات حول الكرامة والحرية والمساواة والاختلاف، وغير ذلك من الحقوق؛ بل إنها تقوم أيضا على أساس أن يمارس المتعلم (الإنسان) تلك الحقوق، وأن يؤمن بها وجدانيا، وأن يعترف بها كحقوق للآخرين، وأن يحترمها كمبادئ ذات قيمة عليا. إنها ليست تربية معارف للتعلم فقط، وإنما هي تربية قيم للحياة والمعيش، انطلاقا من أن "التلاميذ لا يريدون أن يتعلموا حقوق الإنسان، فقط، وإنما أن يعيشوها في تعليمهم حتى تكون له أكبر فائدة عملية بالنسبة لهم".

يتعلق الأمر، إذن، بتكوين شخصية للطفل المتعلم تتأسس نظرتها إلى الحياة ووجدانها ومشاعرها على ما تقتضيه ثقافة حقوق الإنسان من ممارسات وعلاقات بين الأفراد، ثم بين الفرد والمجتمع. فالتربية على حقوق الإنسان تهدف "في مرحلة ما قبل المدرسة والسنوات الأولى من المرحلة الابتدائية إلى بناء مشاعر الثقة والتسامح الاجتماعي. فهذه المشاعر هي أساس كل الثقة المرتبطة بحقوق الإنسان". وهكذا جاز اعتبار حقوق الإنسان تربية عمل أكثر مما هي تربية نظر، وذلك من حيث إن الغرض المتوخى فيها "هو مساعدة الصغار على تفهم الحقوق والواجبات بغية تطبيق مبادئ حقوق الإنسان على أكمل نظام في وجودنا البشري". مما يتطلب من "المدرسين أن يفعلوا ما هو أكثر من مجرد ترديد درس محفوظ لكي تدب الحياة في هذه الأفكار.. عندئذ يمكن للمدرسين وللتلاميذ ممارسة هذه المبادئ بدلا من تدريسها بمجرد الفم أو محاكاتها".

يتضح، إذن، أن تدريس حقوق الإنسان يعني تأسيس هذه الحقوق كقيم على مستوى الوعي والوجدان والمشاعر، وكسلوكات عملية على مستوى الممارسة. وينطلق هذا التعليم القيمي السلوكي من أقرب مجال له، وهو حجرة الدرس، والبيئة المدرسية، ومن ثمة يؤسس تعزيز موضوع اشتغاله، أي حقوق الإنسان، في الفضاء المجتمعي العام خارج المدرسة، في البيت، في الشارع، في مختلف المرافق، ومع مختلف الفئات الاجتماعية. ولعل ذلك ما يسمح باستنتاج أن التربية على حقوق الإنسان ترمي إلى "تكوين المواطن المتشبع بالقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، القادر على ممارستها في سلوكه اليومي من خلال تمسكه بحقوقه واحترامه لحقوق غيره، الحريص على حقوق ومصالح المجتمع بقدر حرصه على حقوقه ودفاعه عنها".

انطلاقا من هذه المعطيات التي تم تسجيلها حول دلالة عبارة حقوق الإنسان، وحول تعزيز هذه الحقوق عبر التربية والتعليم، يمكن أن نخلص إلى اقتراح بعض المميزات التي تسم التربية على حقوق الإنسان، وتحدد طبيعتها وهويتها. وذلك كما يلي:

أ ـ تربية إنسانية:

إن التربية على حقوق الإنسان هي تربية ذات نزعة إنسانية، من حيث هي تربية تتجه إلى توعية الإنسان بحقوقه، وإلى تعزيز هذه الحقوق باعتبارها تشكل الماهية الحقيقية والأصلية للإنسان؛ فهي جوهر وجود الذات الإنسانية، وهي طبيعة هذه الذات ككائن بشري متميز. إن هذه التربية، إذن، هي تربية من أجل الإنسان، من أجل ما يحقق له ماهيته وجوهره.

ب ـ تربية تنويرية عقلانية:

إن التربية على حقوق الإنسان هي تربية تصدر عن نزعة تنويرية عقلانية، من حيث إنها تؤسس خطابها الإنساني على مفاهيم تنويرية، كالذات والعقل، كالحرية والتسامح والاختلاف والكرامة والمساواة والديمقراطية.. ومن خصائص هذا الجهاز المفاهيمي أنه يعبر عن الاتجاه إلى تشييد فكر تحرري، ينطلق من ذات الإنسان ككائن، عاقل، ويقصد تنوير الأفكار والأذهان والسلوكات والعلاقات.

ج ـ تربية نقدية:

إن التربية على حقوق الإنسان ذات بعد نقدي؛ إذ تنزع إلى إعادة النظر في مختلف القيم والمبادئ والسلوكات التي تنافي حقوق الإنسان، والتي تعوق ممارسة هذه الحقوق واحترامها. إنها تربية تعلن عن تغيير عميق للممارسات التقليدية للتعليم، وتنادي بتغيير أعمق في وظائف المؤسسة التعليمية، وفي كثير من أساليب التفكير. وقد عبر عن ذلك أحد الباحثين بقوله: "إن التربية على حقوق الإنسان هي تحويل ثقافي عميق".

د ـ تربية حديثة:

وتتسم التربية الحقوقية بسمة تجعلها متناسبة مع التربية الحديثة؛ وذلك من حيث إنها تربية تتضمن مبدأ تفتح شخصية المتعلم (المواطن) على المحيط الذي تعيش فيه. فأن تقصد التربية الحقوقية تكوين مواطن يؤمن بقيم حقوق الإنسان، ويحترمها، ويعترف بحقوق الآخرين، ويرفض ما ينافي هذه الحقوق لدى الفرد وفي المجتمع، ويسلك سلوكا يطابقها ويعززها، فإنما هي بذلك ترمي إلى أن تكون شخصية المتعلم (المواطن) شخصية منفتحة بوعي على محيطها، وتتفاعل إيجابيا مع هذا المحيط، وما يتكون منه من أفراد ومؤسسات وقوانين..

هـ ـ تربية قيمية سلوكية:

تقودنا الخصائص السابقة إلى وصف التربية على حقوق الإنسان بأنها تربية قيمية سلوكية؛ فهي بتعزيزها لقيم ثقافة حقوق الإنسان، واتجاهها إلى تعليم سلوكات تؤسسها تلك القيم؛ فإنما هي تقصد مخاطبة الإنسان ككائن يتخذ مواقف ويمارس سلوكات عملية، وليس ككائن مفكر فقط. وهكذا، فالتربية على حقوق الإنسان، ولأنها تنويرية ونقدية وحديثة، كما مر معنا؛ فإنها تربية تهدف إلى تأسيس نسق قيمي سلوكي جديد، يقوم على إعمال العقل وتدخل الذات، وينحو إلى تحويل في الأفكار والأعمال والمواقف التي يعرفها محيط الإنسان وبيئته.

إذا فكرنا في معطيات هذا التعريف الموجز بالتربية على حقوق الإنسان، سنجد أن هذه التربية ذات صلة بعدة مستويات، فما هي؟

4 ـ مستويات التربية على حقوق الإنسان ومجالاتها:

ترتبط التربية على حقوق الإنسان بثلاثة مستويات تشكل المجالات التي تتجسد فيها مختلف مظاهر ترسيخ ثقافة الحق والواجب والديمقراطية. وهذه المستويات هي: المستوى البيداغوجي، والمستوى التربوي، والمستوى الثقافي المجتمعي. لنقف عند كل من هذه المستويات:

4-1-المستوى البيداغوجي (التدريس المندمج):

إن الاتجاه إلى تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في البرامج الدراسية يضعنا في قلب المستوى البيداغوجي التدريسي، من جهة أولى، بينما لا تستقل تلك الثقافة بذاتها كمادة ذات بناء مستقل، من جهة ثانية؛ مما يؤدي إلى القول بأسلوب "التدريس المندمج" كأسلوب تعليمي بيداغوجي يدخل قيم حقوق الإنسان في بنية المواد الدراسية، ويفتح فكر المتعلم وسلوكه، عبر هذه المواد، على قيم الكرامة والمساواة والحرية والمواطنة والاختلاف، وغير ذلك من الحقوق المختلفة للإنسان.

لا يتعلق الأمر، ونحن نفكر في المستوى البيداغوجي للتربية الحقوقية، ببناء منهاج لمادة دراسية مستقلة، ولا بإعداد برنامج وكتاب مدرسي خاص بهذه التربية، ولا بتهيء جذاذات تقنية لدروسها. ليس الأمر كذلك؛ وإنما يقصد دمج ثقافة حقوق الإنسان في منهاج كل مادة دراسية، فتصبح جزءا من برنامج كل مادة، وتشغل مكانا ما في كتب كل مادة، كما تكون حاضرة في صياغة أهداف كل مادة، وتكون في موقع الاعتبار بالنسبة لطرق تدريس كل مادة. أي أن القيم والمبادئ والحقوق، التي تقصد تربية المتعلمين عليها، ستتماهى مع كل مادة تعليمية، فتغدو من صلبها.

هكذا إذن، يتجه التعامل البيداغوجي مع التربية على حقوق الإنسان إلى أن تدمج هذه الحقوق في ديداكتيك كل مادة من موادنا الدراسية، ويذهب هذا الدمج إلى أن تحضر حقوق الإنسان في نسق كل مادة، من مستوى أهدافها حتى أساليب تقويمها. كما يمتد هذا الحضور من مستوى تدريس المادة إلى مستوى التأطير فيها؛ فلا يكون دمج ثقافة حقوق الإنسان في المواقع الممكنة من برامج المواد فقط، ولا في وسائلها وطرقها وجذاذاتها فحسب (التدريس)…، بل يكون ذلك الدمج أيضا في مختلف العمليات التي يمارسها الإشراف التربوي لكل مادة تعليمية؛ إذ تصبح حقوق الإنسان حاضرة كموضوع في التنشيط التربوي (ندوات – دروس تطبيقية)، وفي التأطير التربوي (توجيه المدرس)، وفي المراقبة التربية (تقويم عمل المدرس).

يبدو واضحا، إذن، أن التدريس المندمج لحقوق الإنسان يتأسس على النظر إلى المواد الدراسية كدوائر مستقلة عن بعضها، وتختلف عن بعضها، من حيث محتوياتها وأهدافها الخاصة ووسائلها، وأساليب تدريسها وتقويمها وتأطيرها، والأسلاك والمستويات والشعب الموجهة إليها…، ولكن قيم حقوق الإنسان هي عنصر يوجد داخل كل هذه الدوائر (المواد)، ويبرز كعنصر مشترك بينها، يجعلها موحدة ومتكاملة. ومما جاء في إحدى وثائق مركز حقوق الإنسان "أن الغرض هو تكامل الموضوعات التي تدرس بالفعل في المدارس". وبهذا المعنى، وخلف اختلاف المواد التعليمية، يوجد تكاملها في توجهها إلى انفتاح شخصية المتعلم على حقوق الإنسان، وإلى ترسيخ هذه الحقوق في سلوكه ومواقفه.

نخلص إلى أن هذا المستوى البيداغوجي للتربية على حقوق الإنسان يتجسد في ممارسة هذه التربية من داخل العملية التعليمية التعلمية، وذلك بواسطة ما أطلقنا عليه التدريس المندمج، الذي نحدد أسسه وأبعاده في ما يلي:

1 ـ قابلية المواد الدراسية المختلفة لاستلهام قيم ثقافة حقوق الإنسان ومبادئها.

2 ـ اشتراك مختلف المواد الدراسية ووحدتها في انسجام أهدافها الخاصة وطرق تعليمها مع روح الثقافة الحقوقية الإنسانية.

3 ـ توحيد التصور الناظم لتعامل المواد الدراسية مع حقوق الإنسان، تحقيقا لانسجام ما يترسخ لدى المتعلم (المواطن) بصدد قيم الكرامة والحرية والتسامح والمواطنة، وغير ذلك من الحقوق.

4 ـ تحويل فضاء الفصل الدراسي، من حيث سلوكات المدرس والمتعلم، ومن حيث تفاعل عناصر القسم مع بعضها، ثم مع المادة الدراسية، ومع أسلوب العمل…، تحويله إلى فضاء لترسيخ حقوق الإنسان على مستوى الوعي والسلوك، بالنسبة لكل فرد، وكذلك داخل جماعة القسم.

..وبعد، فإن هذا المستوى البيداغوجي لن يثير إلا جانبا محدودا من التربية على حقوق الإنسان، وهو دمجها داخل المواد الدراسية. غير أن هذه التربية لن تكتمل بهذا المستوى وحده، ولن تقف عند حدوده. ومن هنا يجدر بنا أن نوجه النظر إلى المستوى الثاني لممارسة التربية الحقوقية وترسيخ ثقافتها وهو "المستوى التربوي".

4-2-المستوى التربوي (التربية الشاملة):

يجدر بنا أن لا نقف بالتربية على حقوق الإنسان عند مستوى التدريس المندمج، داخل الفصل الدراسي، وإنما يتطلب الأمر التأسيس لهذا المستوى منذ مراحل التربية الأولى داخل الأسرة والعائلة، وتعزيزه من وراء جدران الفصل، سواء في الفضاء المدرسي نفسه، أو في الفضاء السوسيوتربوي العام. ففي تلك المراحل وهذه الفضاءات ينبغي ترسيخ ما يؤسس لثقافة حقوق الإنسان، ثم تعزيز ما يكتسب منها، مما يدعو إلى القول بأن التدريس المندمج لحقوق الإنسان، المطروح في ما سبق، هو عملية يتوقف نجاحها على التربية الشمولية على حقوق الإنسان. فالمدرسة "ليست وحدها معنية، ولكن هناك أيضا ما يسمى بـ"المدرسة الموازية"، أي وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي تلعب دورا مهما". وتشكل، إلى جانب هذه الوسائل، مختلف فضاءات التربية ما يسمى هنا بالمدرسة الموازية.

يقصد بالتربية الشاملة على حقوق الإنسان، حسب هذه الملاحظات، الاشتغال الهادف إلى نشر قيم الحرية والكرامة، وترسيخ سلوكات المساواة والتسامح والديمقراطية والاختلاف، في مختلف مراحل نمو الفرد وتطوره الفيزيولوجي والعقلي والوجداني، وعبر مختلف المؤسسات التربوية والاجتماعية، مثل الأسرة والتعليم الأولي والأنشطة المدرسية ووسائل الإعلام ومؤسسات التنشيط والتثقيف..

أ ـ فضاء الأسرة:

يبدأ الفرد في اكتساب القيم والرموز عبر التوجهات، المباشرة أو غير المباشرة، التي تحكم وجوده داخل الأسرة، والتي تنظم علاقاته وتفاعلاته مع أفراد العائلة وتقاليدها وأعرافها. بحكم أهمية السنوات الأولى في تكوين شخصية الفرد فإن ما يكتسبه في مؤسسة الأسرة سيمتد أثره، إيجابا أو سلبا، على تفكيره وسلوكه في ما بعد طفولته الأولى، وحينما سينضم إلى نسيج مؤسسات أخرى غير الأسرة. ولعل ذلك ما يجعل من التربية داخل الأسرة أحد أسس كل تربية، ومنها التربية على حقوق الإنسان. فإذا لم تجد هذه الأخيرة ما يرسخها ويعززها وينسجم معها، منذ الطفولة الأولى في الأسرة والعائلة، فإن ذلك سيكون عائقا أمامها في المراحل اللاحقة للطفولة، وفي المؤسسات الأخرى خارج مجال الأسرة.

ب ـ فضاء التعليم الأولي:

إذا سمحت للطفل ظروف أسرته الاجتماعية والاقتصادية فإنه يدخل الفضاء التعليمي الأولي، فضاء روض الأطفال والأقسام الإعدادية. وبذلك يدخل الطفل عالم التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، كبارا (مربون ومعلمون) وصغارا (الأطفال وجماعة الفصل)، ومع الأنظمة والتشريعات (التسيير الإداري).

ها هنا سيكتسب الطفل سلوكات وقيما، بفعل تلك التفاعلات والعلاقات البشرية والتنظيمية، وسيكون ذلك إحدى مكونات شخصيته قبل البدء في السلك الدراسي الأول داخل المدرسة المغربية، أي قبل شروعه في تلقي المواد الدراسية النظامية. وهكذا فإن نوعية ما يكتسبه الفرد في التعليم الأولي ستكون ذات أثر على ما نريد تربيته عليه فيما بعد. ومن ثمة يلزم أن تؤسس مرحلة التعليم الأولي للتربية على حقوق الإنسان بترسيخها للقيم والسلوكات التي تنسجم ومبادئ الثقافة الحقوقية، كي لا تكون تلك المرحلة عائقا أمام هذه الثقافة بعديا.

ج ـ فضاء الأنشطة المدرسية:

ويقصد بها تلك الأعمال التربوية والاجتماعية والثقافة التي تقام، أو ينبغي أن تقام، داخل الفضاء المدرسي، ولكنها خارج الفصل وحصص المواد الدراسية. إن هذه الأنشطة، مبدئيا، هي بمثابة تكوين وتربية مستمرين للمتعلمين، واستكمالا لما يلقن داخل حجرات الدرس. كما أن هذه الأنشطة هي مجال تفاعلي للمتعلمين من مختلف الشعب والمستويات فيما بينهم، وهي مناسبة لتواصل مدرسي مختلف المواد وهيئة الإدارة في علاقات تعكس الروح التربوية المنظمة للمجال المدرسي. وهكذا فإن هذه الأنشطة المدرسية ستكون مصدر تربية على قيم وسلوكات يقتضي الأمر أن تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان، تعززها وترسخ الوعي بها والسلوك وفقها.

د ـ فضاء وسائل الإعلام:

تشكل وسائل الإعلام بالنسبة للفرد (الطفل-المتعلم)، وخصوصا البصرية منها، مصدر تلقي معلومات ونماذج من السلوك والقيم السائدة في بيئته ومحيطه، وخارجها أيضا. وتساهم بذلك وسائل الإعلام في تشكيل ذهن الطفل وتطلعاته وأنماط سلوكه، سواء كانت تخصه كفرد، أو في علاقته مع الآخرين. وهكذا فإن المواد التي يقدمها جهاز التلفزيون للأطفال، وللكبار أحيانا، تصبح ذات أثر فعلي حينما يتم الاقتداء بما تتضمنه من شخصيات وقيم ورموز. ومن ثمة فإن وسائل الإعلام كذلك تكون عاملا مساعدا أو عائقا للتربية على حقوق الإنسان، حسب نوعية ما تقدمه وتنشره وتلقنه.

ونظرا لانتشارها الواسع، وللتعامل اليومي والمباشر معها، ولسرعة أثرها المرئي، فإن وسائل الإعلام تملك أكبر الأثر على الأذهان والسلوكات؛ مما يلزم باستحضارها كمصدر رئيسي للتربية على حقوق الإنسان، وبصورة تنسجم مع باقي مصادر هذه التربية.

هـ ـ فضاء التنشيط والتثقيف:

ويضاف إلى هذه المؤسسات والمجالات التربوية والاجتماعية مختلف الجهات التي يعهد إليها بالتنشيط والتثقيف، ويتعلق الأمر بالجمعيات الثقافية والفنية والرياضية، وبمؤسسات الشباب والثقافة. فهاهنا نجد مجالا لتربية الأطفال، وللكبار أيضا، لتأطيرهم وتنشيطهم وتثقيفهم، نظريا وعمليا. وبذلك فإن هذه الجمعيات والمؤسسات ستكون مصدر تكوين بالنسبة لأعضائها وروادها، على الأقل، مما سيجعل منها عاملا سلبيا أو إيجابيا أمام التربية على حقوق الإنسان، حسب نوعية القيم والسلوكات التي تساهم في تكوينها وترسيخها لدى المستفيدين من تنشيطها وتثقيفها.

إن هذا الفضاء هو مجال مفتوح وعمومي للتنشيط والتثقيف، ومن هنا أهمية مساهمته الواسعة والمتنوعة في ترسيخ مكونات الثقافة الحقوقية الإنسانية المنشودة.

واضح من هذا الفصل، إذن، أن فعل التربية والتكوين لشخصية الفرد لا يصدر عن المدرس وحده، وإنما هو فعل يصدر عن عدة جهات، بل إن من هذه الجهات من يسبق أثره تدخل المدرس. ولعل ذلك ما يقضي بالنظر إلى التربية على حقوق الإنسان من حيث هي تربية شمولية؛ إذ لا يكفي إنجازها داخل الفصل المدرسي وحده، بل إن الأمر يلزم بممارستها على مستوى الفضاء التربوي جملة.

4-3-المستوى الثقافي المجتمعي:

إن الممارسة البيداغوجية، والممارسة التربوية أيضا، ليستا معزولتين عن البنية الثقافية المجتمعية عامة؛ مما يلزم بالتفكير في أن لا نجاح للممارستين المذكورتين بدون انسجامهما مع ممارسة تشملهما وتستغرقهما، وهي الممارسة الثقافية. فهذه الأخيرة هي التي تؤسس وتؤطر كل عملية تربوية (التنشئة) وتعليمية (التدريس)، وخصوصا على مستوى التصورات والمعارف والقيم.

إن ما يلقن للمتعلم في المدرسة، وإن ما يتلقاه الفرد من تنشئة في مختلف المؤسسات الاجتماعية، إن ذلك يتأسس على ثقافة المجتمع النظرية وتصوراته القيمية ومعاييره السلوكية.

..وعلى ضوء هذا التصور، فإن تدريس ثقافة حقوق الإنسان وتنشئة الفرد على مبادئها ومفاهيمها وقيمها يتطلبان تأسيسهما على نشر ثقافة نظرية وقيم للسلوك والتعامل تتكامل والثقافة الحقوقية، وتمهد لها وتشيعها وتحميها، نظريا وتشريعيا وعمليا، على مستوى المجتمع كلية في مختلف مرافقه وقطاعاته.

وهكذا تكون الحاجة كبيرة إلى ثقافة عقلانية إنسانية تنويرية، فهي الكفيلة بتعبيد الطريق لتدريس وتنشئة يرسخان حقوق الإنسان؛ مما يؤمن "تطبيق مبادئ حقوق الإنسان تطبيقا عمليا في المجتمع عموما. كما يعزز الدروس المستفادة ويهدي التلاميذ إلى معرفة المساهمة التي قد يقدمونها خارج الصف والمدرسة، وفي حياتهم كأفراد بالغين". إذ أن دمج الثقافة الحقوقية في التكوين المعرفي والسلوكي والوجداني للفرد يقتضي سيادة نسق ثقافي قيمي يرتكز على مبادئ ومفاهيم "العقل" و"الإنسان" و"الحرية"، وهو النسق الذي يعلي من شأن "الذات" وحقها في الوجود، وفي الكرامة، وفي التفكير، وفي كل ما من حقها.

إن دمج قيم ومبادئ حقوق الإنسان في المواد الدراسية، وتربية الفرد على هذه الحقوق، سيظلان عملا غريبا عن النسق المجتمعي العام إذا لم تتم تنمية ثقافة يكون الإنسان محورها، ويشكل العقل مبدأها، وتقوم على الحرية والتنوير. فاستمرار ثقافة وقيم تمجدان "اللاعقلانية"، ولا تستحضران الإنسان كقطب رئيسي، وترسخان السلطة، وتمارسان الظلم والعنف…، إن استمرار ذلك من شأنه أن يجعل خطاب حقوق الإنسان في المدرسة، وفي أي مكان آخر، مجرد قول "فارغ من المعنى" و"عديم المصداقية". فالمحيط الذي ترتبط به المدرسة ينبغي أن يؤمن بحقوق الإنسان ويحترمها ويحميها، كي يترسخ ذلك على مستوى المدرسة.

نخلص إلى أن مشروع "التربية على حقوق الإنسان" هو مشروع ملزم بأن يستحضر مستويات متعددة يؤسس بعضها الآخر، ويكمل بعضها الآخر؛ فهو مشروع لا يتوقف عند حدود ما هو بيداغوجي فقط، ولا يرتبط بالنسق التربوي الشمولي فحسب، بل هو مشروع يتعلق بهذين المستويين معا وبدمجهما في نسق ثقافي مجتمعي أشمل يتسم بالعقلانية والإنسانية والتنوير.

بهذا المعنى، إذن، نجد أنفسنا أمام مشروع ليس بيداغوجيا خالصا، ولا تربويا صرفا، وإنما هو مشروع سوسيوثقافي. إنه مشروع تحديث العقل ثقافيا، وتنمية وضع الإنسان اجتماعيا، وتنوير القيم في أفق عقلاني إنساني تحرري يقر الحق ويحترم الواجب، وإقامة ذلك على نظام سياسي ديمقراطي ينسجم وهذا الثقافي التنويري الإنساني، ويكون مع حقوق الإنسان لا ضدها.

5 ـ خاتمة:

..لم يكن، ولن يكون، مقصد هذه المقالة هو فصل المقال في مسألة حقوق الإنسان. وإذا أدرك القارئ تقاطع المستويات الثلاثة للتربية الحقوقية وتكاملها، أي المستويات: البيداغوجي والتربوي والثقافي المجتمعي، وإذا بدأ القارئ يفكر في هذا التقاطع والتكامل؛ فإن خطابنا قد أصاب هدفه.

..لا، بل إن القارئ إذا أفاد شيئا من الصفحات السابقة، فإنه سيجد أن الفائدة الكبرى هي أن يفتح تفكيره على مستوى رابع، وهو أحد المستويات الذي يشكل نقطة ارتكاز لنجاح مشروع حقوق الإنسان، ولانتشار الثقافة الحقوقية، وللتربية على هذه الثقافة…، إنه المستوى السياسي. فإذا كانت المستويات المطروحة سابقا تؤسس بعضها البعض، وتتكامل فيما بينها، وتتقاطع وتتداخل، فإن المستوى السياسي يمثل بالنسبة إليها جميعها ذلك المحور الذي يديرها أو يعطل حركتها.

وهكذا، فإن إدماج ثقافة حقوق الإنسان بيداغوجيا في الحقل التعليمي، وإن ترسيخ تلك الثقافة عبر التربية الشاملة، وإن تأطير ذلك كله داخل فضاء ثقافي مجتمعي عقلاني تنويري…، إن ذلك كله، ورغم أهميته التي عملنا على إبرازها، يتطلب تحضر الفعل السياسي، وتمدن الممارسة السياسية.

إن هذا المقتضى السياسي، والذي يتأسس على ديمقراطية حقيقية، هو ما سيضمن انسجام البيداغوجيا والتربية والثقافة مع واقع الإنسان، من حيث مدى الاعتراف له بحقوقه، نظريا وتشريعيا، ومن حيث مدى احترام هذه الحقوق عمليا. وأما أن يظل الكائن البشري موضوع استغلال وضرب وعنف فإن الدمج البيداغوجي والتنشئة التربوية والتثقيف التنويري ستظل عمليات فوقية تعوزها القاعدة التي تضمن لها المشروعية العملية.

..وحتى وإن فتح القارئ تفكيره على هذا المستوى، الذي لم ينجز بعد، لا في هذا المقال فقط، بل في الواقع أيضا؛ فإن ذلك لا يعني أنه مع استحضار المستوى السياسي سينتهي موضوع حقوق الإنسان؛ إذ هو موضوع لا يمكن انتهاؤه، ولا ينبغي أن ينتهي، لأنه موضوع الحياة، وموضوع الكرامة، وخصوصا إذا أردنا لهذا المشروع أن يدخل حقل التربية والتعليم والتثقيف..