التعذيب بين المناهضة الحركية و الفكرية

طباعة

التعذيب  بين المناهضة الحركية و الفكرية

نضال درويش

يعتبر التاريخ البشري بأحد مستوياته ، تنويعة على شكل جدل الاستبداد و الحرية ، بالمعنى التاريخي للكلمة . في هذا السياق المعقد و المتعرج ، كانت أشكال التعذيب ، المرافق لهذا الجدل ، التي أنتجها البشر في سياق تطورهم ، انتج موضوعيا حراكا يقف ضد هول التعذيب ، بالمعنى الحركي و الفكري للكلمة ، وقد تبلور هذا السياق المناهض للتعذيب بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث كان على مستويين ، الأول فكري قانوني يرتبط بالمنهجية التي ينظر فيها إلى قضية التعذيب ، الثاني و هو المستوى الحركي – الاجتماعي المناهض لعملية التعذيب .

شكل إنشاء الأمم المتحدة ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية و الفظائع التي تم ارتكابها خلال هذه الحرب ، خطوة/مفصل مهم على طريق تعزيز حقوق الإنسان و بالتالي مناهضة التعذيب ، إذ إن المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، الذي اعتُمد في العام 1945، تقرر بأن أحد أغراض الأمم المتحدة هو "تحقيق التعاون الدولي … في تعزيز حقوق الإنسان والتشجيع على احترامها. "وكما جاء في مطبوعة معاصرة أصدرتها الأمم المتحدة فإن "تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، وهي مهمة أُوكلت سابقاً إلى الدول القومية، أصبحت مسؤولية دولية، ولم تقتصر هذه المسؤولية على مجرد تعهد دولي ورد بلغة (عبارات) عامة. بل باتت جزءاً من برنامج دولي برعاية الهيئات والوكالات الرئيسية في الأمم المتحدة وتبلورت في برامج العمل العائدة للهيئات واللجان الأصلية والفرعية المختصة."و شكل هذا السياق في التعزيز ، ردا على الانتهاكات و الجرائم التي تم ارتكابها من قبل الحكومات الوطنية ضد شعوبها ، و الإبداع في أشكال التعذيب ، تحت غطاء السيادة الوطنية و عدم التدخل في الشأن الداخلي .

"وتمثل الجهد الرئيسي الأول لبرنامج حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن خلال اعتماده، وافقت حكومات العالم، الممثلة في الجمعية العامة، على أن حقوق الإنسان الأساسية هي من حق كل شخص. وتنطبق هذه الحقوق في كل مكان، وليس فقط في الدول التي قد تقرر حكوماتها احترامها. ويستتبع ذلك المبدأ وجوب أن تحترم جميع الحكومات حقوق الأشخاص الخاضعين لولايتها القضائية، وأن الشخص الذي تُنتهك حقوقه يحق له مقاضاة الحكومة التي تنتهكها. وعلاوة على ذلك، فإن حقيقة اعتماد الحكومات مجتمعةً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعني ضمناً أن انتهاكات حقوق الإنسان هي من شأن جميع الحكومات. ويجب التمسك بالتحرر من التعذيب والمعاملة السيئة في كل مكان".وتنص المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه : "لا يُعرَّض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو المحطة بالكرامة." وعبَّر اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948 عن وجود إجماع دولي على أنه يحق لكل شخص عدم التعرض للتعذيب أو سوء المعاملة.

وفي العام 1966 تم اعتماد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تُحظِّر المادة 7 منه ممارسة التعذيب والمعاملة السيئة ، كمالا يجوز أبداً تقييد هذا الحق ( الحقوق المدنية و السياسية )، حتى "باسم حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة" (المادة 4). كما أن القانون الإنساني الدولي، الذي يعرف عموماً باسم قوانين الحرب، يمنع التعذيب والمعاملة السيئة منعاً باتاً.. ، وعندما تصبح الدولة طرفاً في العهد المذكورتكون ملزمة قانونياً باحترام الحظر والتأكد من تمتع جميع الأفراد الداخلين في ولايتها القضائية بالحق في عدم التعرض للتعذيب أو سوء المعاملة. وهذا ما يعبر عن عمق الإدراك للمنظمات غير الحكومية لمشكلة التعذيب ، وحراكها على المستوى القومي و الدولي من اجل الالتزام بالمعايير الدولية و القانونية لمنع التعذيب ، وفي هذا السياق كانت الحملة الدولية الأولى التي أطلقتها منظمة العفو الدولية في 10/ديسمبر-كانون الأول لعام 1975م – يوم اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – و نتيجة لهذه الحملة و التقارير التي تم إصدارها لفضح عمليات التعذيب ، تم اتخاذ جملة من الإجراءات ، ففي عام 1975 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ( إعلان مناهضة التعذيب ) إلى يحدد التدابير التفصيلية التي ينبغي على الحكومات اتخاذها لمنع وقوع التعذيب ،  وأعقبه اعتماد صكوك الأمم المتحدة التي تتناول حظر التعذيب فيما يتعلق بمهنتي الشرطة والطب. وفي العام 1981 أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة الصندوق التطوعي للأمم المتحدة الخاص بضحايا التعذيب، وهو صندوق دولي لتقديم المساعدة الإنسانية إلى ضحايا التعذيب وعائلاتهم.وبعد إعلان مناهضة التعذيب بسنتين 1977م جمعية تعرف اليوم بجمعية منع التعذيب ، ومن ثم أُسست المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب في العام  1986 ، لتسهيل التحرك الدولي للمنظمات غير الحكومية الوطنية. وبينما ازداد عدد المنظمات غير الحكومية الدولية، تولت المنظمات الوطنية بشكل متزايد مهمة في غاية الأهمية وهي محاربة التعذيب في بلدانها، غالباً في ظروف تتسم بالقمع الشديد. وزاولت هذه المنظمات أنشطة مثل التدخل العاجل لدى السلطات عندما يُخشى من ممارسة التعذيب؛ وتوثيق الحالات؛ وتقديم الالتماسات في المحاكم نيابة عن ضحايا التعذيب؛ وإرسال معلومات إلى المنظمات غير الحكومية الدولية والمنظمات الحكومية الدولية التي يمكنها القيام بتحركات من خارج البلاد. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 1984 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مناهضة التعذيب ، وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (اتفاقية مناهضة التعذيب) – وهي معاهدة دولية تلزم الدول الأطراف باتخاذ خطوات محددة لمنع التعذيب والتحقيق فيه وتنص على الولاية القضائية الشاملة في مقاضاة ممارسي التعذيب المزعومين. كما تنص الاتفاقية على إنشاء لجنة لمناهضة التعذيب للإشراف على تنفيذ أحكامها. وفي العام 1985 قررت الأمم المتحدة تعيين مقرر خاص معني بالتعذيب، يتضمن عمله الآن إرسال مناشدات عاجلة إلى الحكومات في الدول التي يرد أن شخصاً يتعرض فيها لخطر التعذيب. وفي العام 1993، اعتمد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عقدته الأمم المتحدة إعلان وبرنامج عمل فيينا الذي ينص على أن "أحد الانتهاكات الأكثر وحشية لكرامة الإنسان هو ممارسة التعذيب، التي تؤدي إلى تحطيم كرامة الضحايا وتضعف قدرتهم على مواصلة حياتهم وأنشطتهم". وحث المؤتمر "جميع الدول على وضع حد فوري لممارسة التعذيب واجتثاث هذا الشر إلى الأبد."  ومن بين التطورات المهمة الأخرى إنشاء المحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغسلافيا السابقة ورواندا واعتماد قانون روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية في العام 1998 والذي ينص على إجراء محاكمات جنائية دولية للأشخاص المتهمين بارتكاب أفعال تشكل جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية بما فيها التعذيب ( الفصل السابع ) .

هذا الحراك للمنظمات غير الحكومية لمناهضة التعذيب ، كان حراكا ، من جهة أخرى ، من اجل إرساء سيادة القانون ، المبدأ الذي ينص على أن القانون فوق الجميع / الحاكم و المحكوم في آن / ، وأن الأفعال التي يمارسها المسؤولون الرسميون في الدولة يجب أن تنفذ وفقا للقانون بالضبط ، وأن انتهاك المسؤول للقانون هو أولا و أساسا انتهاكا للدولة ، فالقانون هو ماهية الدولة وروح الشعب ، وعندما يعلق الدستور ، وتستمر السلطة بموجب استمرار العمل بحالة الطوارئ و الأحكام العرفية ، عندئذ نتكلم عن سمات النظم التسلطية التي احتكرت في سياق حكمها مصادر القوة و السلطة و الثرة في المجتمع ، فتشكل ممارسة  التعذيب بأشكاله المختلفة سمة أساسية من سمات هذا النظام . كما يمكن ، من جهة ثالثة ، اعتبار مناهضة التعذيب و العمل ضده  ينطوي على إرساء سيادة القانون الدولي – ويستلزم وجود قدرة على التعامل على أساس دولي مع الانتهاكات التي ترتكبها جميع الدول، من دون تمييز، للواجب المترتب عليها في احترام القانون وحظر التعذيب وسوء المعاملة، وقدرة على الصعيد الدولي تكفل تحميل الأفراد مسؤولية جنائية عن التعذيب. وقد تحقق العديد من الإنجازات المفصلية في هذا السياق وقد أتينا على ذكر بعضا منها في السطور السابقة .

في سياق هذا التطور المناهض للتعذيب ، وما رافقه من إنجازات مهمة ، كان بلا شك التعبير العملي لسياق النضوج المعرفي لزاوية الرؤية لقضية التعذيب ، مما أسهم في أخذ  مفهوم التعذيب دلالات أوسع و أعمق ، وهذا ما سيترك أثره على مستوى ثقافة حقوق الإنسان من جهة  ، ومستوى الحراك المناهض للتعذيب من جهة ثانية .

فبسبب مناخات الحرب العالمية الثانية وما تركته من آثار مدمرة على المجتمعات المعنية ، وما رافق ذلك من انتهاكات واسعة مارستها الحكومات الوطنية ضد شعوبها ، كانت صكوك حقوق الإنسان تهدف إلى إحباط هذه الانتهاكات ووضع الضمانات القانونية المناسبة للحد منها ، لذلك كانت زاوية الرؤية  لقضية التعذيب عندئذ مرتكزة على احتجاز أجهزة الدولة للمعتقلين السياسيين وممارسة التعذيب ضدهم كطريقة للقمع السياسي ، لذلك كانت المعايير المناهضة للتعذيب ، هي معايير لحماية الأشخاص المحتجزين من قبل أجهزة الدولة ،  لكن مفهوم التعذيب وسوء المعاملة كان أوسع من ذلك. حيث إنه إذا كانت أوضاع الاعتقال سيئة بما فيه الكفاية، فيمكن أن تصل إلى حد المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وقد تم الإقرار بأن التجارب الطبية أو العلمية القسرية في المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تشكل ضرباً من ضروب التعذيب أو سوء المعاملة (الفقرة 3-4 ) ،كما أن العقوبة الجسدية اندرجت تحت الحظر بحسب ما قالته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وبعد ذلك صرَّحت لجنة حقوق الإنسان في العام 1992 بأن حظر التعذيب وسوء المعاملة بموجب المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "يحمي، بشكل خاص، الأطفال والتلاميذ والمرضى في المؤسسات التعليمية والطبية" وعندما يتعرض أفراد الجمهور للضرب على يد الشرطة بينما هم مستقلين على الأرض ومغلوباً على أمرهم، فإنه يمكن أن يشكل أيضاً إساءة معاملة أو تعذيب، حتى وإن لم يُعتقل الضحايا بصورة رسمية. وظهر بُعد آخر في الفهم المتطور لمشكلة التعذيب وإساءة المعاملة من خلال الجهود التي بذلتها الحركة النسائية للتصدي لمشكلة العنف في المجتمع والعائلة. ولم يكن الجناة في هذه الحالات من موظفي الدولة – بل كانوا أفراداً يتصرفون بصفتهم الخاصة – لكن الدولة غالباً ما توانت عن توفير الحماية وتقديم الجناة إلى العدالة وإتاحة سبل تظلم فعالة، وكان الإهمال قائماً على التمييز*. وأشارت لجنة حقوق الإنسان في العام 1992 إلى واجب الدول الأطراف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في منح كل شخص الحماية من ممارسة التعذيب وسوء المعاملة "التي يرتكبها أشخاص يتصرفون بصفتهم الشخصية". وجرى الحديث بإسهاب عن الإجراءات التي ينبغي على الحكومات اتخاذها للقضاء على العنف الممارس ضد المرأة، ومن ضمنه التعذيب وسوء المعاملة، في التوصية العامة رقم 19 الصادرة عن لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة التابعة للأمم المتحدة المعتمدة في العام 1992، وفي الإعلان الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1993 ( الفقرة 6-6 ) . وهنا كان المفصل الأهم في هذا السياق ، وهو العلاقة بين التعذيب و التمييز ، ليشكل التمييز في هذا المجال اعتداء على مفهوم حقوق الإنسان من أساسه ، لأنه يشكل المنطق الذي تمارس استنادا عليه كل أشكال الاضطهاد الاجتماعي و الإقصاء الإيديولوجي و الاستبداد السياسي ، لتصبح المفردات ذات التصنيف الإطلاقي ، المفردات المفتاحية في نسق هذه العلائق المختلفة ، مثل ( العورة ، ناقصة عقل ودين ،  الزندقة ، الكفر ، الخيانة ، العمالة ، الرعاع ،  ......إلخ ) ، وهذا ما يحرم على أساسه أشخاصا أو مجموعات معينه من حقوقها الإنسانية الكاملة ، بسبب هويتها أو معتقدها ، وذلك بعد تجريدهم من صفاتهم الإنسانية ، مما ينتج عنه عملية تغذية متبادلة بين التعذيب و التمييز ، فالتمييز يمهد للتعذيب ، وماهية التعذيب تستند على ماهية التمييز . من خلال السماح باعتبار الضحية شيئاً وليس إنساناً، وبالتالي يمكن معاملته معاملة غير إنسانية. وكما صرَّحت لجنة مناهضة التعذيب فإن "التمييز أياً كان نوعه، يخلق مناخاً يمكن فيه بسهولة أكبر القبول بالتعذيب وإساءة المعاملة الممارسة ضد الفئة ‘الأخرى’ التي تتعرض للتعصب والمعاملة القائمة على التمييز، و… يحبط التمييز تحقيق المساواة بين جميع الناس أمام القانون". وهنا يأخذ التمييز الممهد للتعذيب أكثر الدلالات كارثية ، عندما يتم تكريس التمييز في قانون الدولة ، بالمعنى القومي أو الأثني أو الديني أو السياسي أو التمييز بحق المرأة ، مما يساهم في حرمان جماعات بعينها من الحماية المتساوية أمام القانون من العنف و التعذيب ، الذي تتعرض له في المجتمع و العائلة و المؤسسات الحكومية ،  مثل العنف الممارس ضد النساء والاعتداءات التي يتعرض لها أطفال الشوارع والهجمات العنصرية وجرائم الكراهية ، وقد تكون سبل التظلم القانوني غير متاحة أمام هذه الجماعات المهمشة بالقدر ذاته الذي تتاح فيه أمام سواها،  ويعزز التمييز المقونن  الإفلات من العقاب، ويقلل من احتمالات اتخاذ أية إجراءات رسمية في حالات التعذيب أو إساءة المعاملة. وغالباً ما يؤدي هذا   التقاعس الرسمي إلى تسهيل نشوء هذه المظاهر العنيفة للتحيز وتشجيعها. ويتضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية مادة تنص على أنه يجب مراعاة أحكامه "دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً أو غير سياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب (المادة 2(1)). وتتضمن الصكوك الدولية والإقليمية الرئيسية الأخرى لحقوق الإنسان التي تُحظر التعذيب وسوء المعاملة أحكاماً مشابهة. كذلك حال الصكوك الأخرى التي تشمل المسائل المتعلقة بمنع التعذيب، مثل أوضاع الاعتقال وحقوق المعتقلين. وبموجب  المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب فإن تعمد التسبب بالألم أو العذاب الشديد "لأي سبب كان يقوم على التمييز أياً كان نوعه" يعتبر تعذيباً. وبالعكس، فإن الصكوك الدولية والإقليمية الرامية إلى محاربة التمييز أو حماية فئات معينة تتضمن حظراً صريحاً للتعذيب وسوء المعاملة، فضلاً عن حظر إلحاق أذى جسدي أو عقلي، وتُحظر بموجبها بوضوح مختلف أفعال التعذيب أو المعاملة السيئة . ولا ننسى في هذا المجال بأن أكثر الشرائح الاجتماعية تعرضا للتعذيب بدلالاته  الجسدية و القانونية و النفسية و الاجتماعية ، هي الشرائح  الفقيرة و المهمشة ، وفي مناقشته للصلات القائمة بين التعذيب والفقر  ، كتب المقرر الخاص يقول :"الأغلبية العظمى من الأشخاص الذين يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة هم المجرمون الذين يرتكبون جرائم عادية وينتمون إلى أدنى طبقات المجتمع. وهم الذين لا يملكون مالاً لتوكيل محامين جيدين أو الذين لا يستطيعون الاستعانة إلا بالمحامين غير الحريصين الذين تقدمهم الدولة في بعض الحالات، أو الذين قد لا يستطيعون الاستعانة بمحامين بالمرة؛ والذين ليس لدى عائلاتهم علاقات بأشخاص نافذين بحيث لا يأخذهم أفراد الشرطة أو أعضاء النيابة العامة أو القضاة على محمل الجد، أو حتى وسائل لضمان الرعاية الصحية اللازمة للإنقاذ من الموت والتي يمكن الحصول عليها خارج مكان الاعتقال، أو تزويدهم بالطعام الصالح للأكل عندما تُقصر سلطات ومؤسسات الاعتقال عن توفيره لهم؛ والذين قد لا يملكون أدنى فكرة عن حقوقهم، حتى الحق في عدم التعرض للتعذيب، أو كيفية الحصول على تلك الحقوق. وفي الواقع، غالباً ما يكونون من أبناء المستوى الأدنى في طبقة دنيا محرومة من كل فرص العيش الكريم كمواطنين منتجين اقتصادياً."

و من هنا لاحظنا هذا المسار في الجدل بين منهجية الرؤية لمفهوم التعذيب ، و الحراك من أجل مناهضته ، ساهم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن في توسيع نطاق مفهوم التعذيب ، مما أسهم أكثر في تعميق الوعي بماهية حقوق الإنسان ، وبالتالي ثقافة حقوق الإنسان . مما اسهم في توسيع مسؤولية ضمان عدم التعرض للتعذيب و سوء المعاملة التي يتعرض لها الإنسان لتتجاوز الحكومات إلى المجتمعات  . وفي الدول التي يشكل ناظم العلاقة بين السلطة و المجتمع حالة الطوارئ و الأحكام العرفية ، تمارس فيه أجهزة السلطة المختلفة كل أشكال التعذيب  ، المدانة بموجب القانون الدولي المعني  ، وبموجب مواثيق حقوق الإنسان و الاتفاقيات ذات الصلة ، يقع على عاتق السلطة المسؤولية الأساسية لوقف عمليات التعذيب والتزامها بالعهود التي صادقت عليها ، والمصادقة على اتفاقية منع التعذيب، إضافة لالتزاماتها الدستورية .